منتدى العدميين العرب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى العدميين العرب

منتدى فلسفي حواري ذو توجه عدمي
 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالجمعة أغسطس 28, 2009 4:48 am


قصيد الحجر.. عندما يتماهى البنيان مع حياة الإنسان فى مسجد «السلطان حسن» سماء مقلوبة فى الصحن وعبورها يعنى اجتياز الحياة

كتب جمال الغيطانى ٢٣/ ٨/ ٢٠٠٩


فى الصحن



عبرنا الدهليز الطويل، الضيق، اجتزنا العسر وها نحن فى بداية اليسر، وكما أن إدراك حلاوة الفرج لا يكون إلا بعد معاناة الشدة، فإن رحابة الصحن تضىء داخلنا إذ نجد أنفسنا فى مواجهة الفراغ الرهيب، لكن.. لننتبه، هذا فضاء غير مطلق، إنه محدود، بل إن ما يجسد لا نهائيته تلك المحدودية ذاتها، فلولا الإيوانات الأربع الشاهقة الارتفاع لما كان تجسيد هذا الفراغ الذى ينطلق مباشرة إلى السماء القريبة، البعيدة.

ألسنا هنا أمام تلك الثنائية الغامضة، المستعصية على أولى الألباب منذ فجر الإنسانية، أعنى الروح والجسد، أليست هذه الجدران الحجرية الضخمة بمثابة الجسد، وهذا الفراغ فى منطقة القلب بمثابة المركز، الحجر يجسد الفضاء المبين. والفراغ يبرز قوة البنيان المتين، فهل يمكن فصل أحدهما عن الآخر؟

كلا..

لطالما تأملت هذه الأشكال الحجرية التى تحد جدران المساجد، والكنائس أيضًا، ما يسميها المعماريون بالشرافات، ولا أذكر متى ولا أين سمعت وصفا آخر لها، العرائس؟

هذه العرائس التى تختلف أشكالها من مسجد إلى آخر، فمرة تتكون من ثلاثة حدود، ومرة خمسة، أو سبعة، أحيانا تبدو كزهرة اللوتس المصرية العريقة، ومرة تبدو مجردة، تتجاور العرائس فى تساو أبدى، لا تشذ واحدة منها، إذ أتاملها أرى نفس الشكل الحجرى قد صيغ أيضا خلال الفراغ الذى يتخلل كل اثنتين، عناق المادة بالفراغ، الروح بالجسد، إذا فارقت يتحد الفراغ النسبى بالفراغ المطلق، وبقدر ما تكون بداية بقدر ما تكون نهاية.

ألا يحاكى البنيان هنا الحياة الإنسانية؟

أربعة إيوانات، متعامدة، متواجهة، مشرفة، أكبرها الشرقى، حيث التمهيد المؤدى إلى القبة، دائماً أتوقف عند نهاية الدهليز، متطلعا إلى الإيوان المواجه حيث القبلة عمقه - كما تذكر الدكتورة سعاد ماهر - ثمانية وعشرون متراً، ما يتعلق به بصرى ذلك العقد الحجرى والذى يعتبر أكبر عقد فى العالم الإسلامى، وقديما كان يضرب بإيوان كسرى المثل فى العبقرية المعمارية، حيث يقوم فى الفراغ ويعلوه عقد مقوس، عقد إيوان القبلة فى مدرسة السلطان حسن يزيد عن إيوان كسرى بخمسة أذرع، وقد وقفت يوما، منذ سنوات أمام إيوان كسرى، ويقع قرب مدينة بغداد، فى منطقة اسمها سلمان بك، وعلى الرغم من أنه كان يعد من علامات العالم القديم، خاصة قبل الإسلام، كان رمزًا للإمبراطورية الشرقية الفارسية، إلا أن ما تبقى منه لم يحدث عندى أثرا قويا، إنه مجرد طلل بال وإن بقى قائما، مرتفعا، أما مدرسة السلطان حسن فتفيض بالحياة والقوة.

العقد من الحجارة المستطيلة المتجاورة، ترتفع وتنحدر على مهل فى الفراغ، لا شىء يسندها، لا أعمدة، لا قوائم، وتتجسد هنا جرأة المصمم وسعة خياله، إن التصميم المعمارى يحتاج أيضا إلى المغامرة، ولكن أى مغامرة فى الفن سواء كان شعرا أو نثرا أو نقشا أو بناءً لابد أن تكون مستندة إلى أصول وتراث، بعد استيعاب هذا كله يتم الانطلاق لتحقيق الجديد.

يجسد هذا العقد المعجزة رغبة الإنسان فى الانطلاق، فى التحليق إلى السماوات العلا حتى وإن استخدم أصعب المواد.. الحجر.

أتجه إلى منتصف الإيوان القبلى، أجلس عند طرف أرضيته المرتفعة عن أرضية الصحن الفسيح، أى أننى أتوسط الفراغ مواجها القبلة، وهنا أكتشف خاصية أخرى لهذا البناء الهائل، فمن أى جهة يمكن استيعاب مساحته بالنظر، كذا تكوينه، فى المساجد الفارسية يقع التجزىء فيؤثر ذلك على إدراك شمولية البناء رغم صخامته، ولكن فى العمارة المصرية يلعب التجريد دوراً فى إطلاق الخيال، الجدران غير منقوشة إلا فى مواضع محددة، فى الإيوان الشرقى مثلا شريط من الجص عليه كتابة كوفية على خلفية مستوحاة من أوراق النبات، نصها: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، إنا فتحنا لك فتحا مبينا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما، وينصرك الله نصرا عزيزا، هو الذى أنزل السكينة فى قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السموات والأرض وكان الله عليما حكيما ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً». قرآن كريم.

النص القرآنى هنا جزء رئيسى من البناء، ويسهم فى إبراز الهدف منه، وبث السكينة فى النفوس، وأرواح الموتى المفترض رقودهم تحت القبة، خاصة روح من أمر بتشييد المسجد، السلطان نفسه.

الجدران إذن معظم مساحاتها خالية من الزخارف الدقيقة، ولكن هذا التجريد الذى يميز العمارة الإسلامية المصرية عامة يوحى أكثر مما يصرح به، إنه لا يغرق البصر فى التفاصيل، ولكن عن طريق الخطوط الجريئة المنطلقة تتجسد المعانى الكلية الموحية، الصحن على هيئة مربع تقريبا، طوله ٣٤.٦٠ متر وعرضه ٣٢.٥ متر، الأرضية مفروشة بالرخام، فى المركز تماما فسقية للوضوء تعلوها قبة خشبية تقوم على ثمانية أعمدة، كتب على القبة آية الكرسى وتاريخ الفراغ منها، هذه الميضأة تذكرنى بأخرى تتوسط مسجد السلطان برقوق فى النحاسين، والذى يكون ملخصاً معماريًا جميلاً لمدرسة ومسجد السلطان حسن.

أتأهب لعبور الصحن بعد جلسة قد تطول أو تقصر، إذ يحتوينى الفراغ، لا أدرى سببا لتردد قصيدة الشيخ الرئيس ابن سينا داخلى، والتى نظمها عن النفس الإنسانية ويقول فى بدايتها.

هبطت إليك من المحل الأرفع

ورقاء ذات تعزز وتمنع

محجوبة عن كل مقلة عارف

وهى التى سفرت ولم تتبرقع

إذ أصل إلى حدود الإيوان الشرقى ألتفت ناظراً إلى القبلى، الغريب أنه ما من مرة جئت فيها إلا وطالعتنى حمامتان أو ثلاث، تستقران هناك، فى أعلى العقد الحجرى قرب الشرافات، كأنهما النقطة فوق النون، حضور هذا الحمام يثير شجنا غامضا عندى، ولا أرى حمامة مطوقة إلا وتذكرت تردد هديلها ساعة الظهيرة، سواء كنت فى قريتى بجهينة حيث تتداخل أصوات الحمام برائحة الخبيز، والطمى الجاف، والبوص المكدس فوق الأسطح، يبدو أن الحمام المستقر فوق الإيوانات هنا يتخذ له مقرا فى هذا المكان القصى الذى يصعب إدراكه، كيف يرانا؟ كيف نبدو فى عيون هذا الحمام المشرف من عل.

أقف الآن فى منتصف الإيوان الشرقى، يقول الطواشى مقبل الشامى إنه سمع السلطان يقول: انصرف على القالب الذى بنى عليه عقد الإيوان الكبير مائة ألف درهم نقرة، وهذا القالب «أى الهيكل الخشبى الذى شيد حول الإيوان» مما رمى على الكيمان «أى على تلال القمامة».

قال الطواشى أيضا إن السلطان قال أيضا: لولا القول إن ملك نصر عجز عن إتمام بنائه لتركته لكثرة ما صرف عليه.

أتوقف هنا أمام باب المنبر الخشبى المغطى بالنحاس المشغول، وباب المدرسة الحنفية إلى اليمين، المدرسة الوحيدة التى يمكن الوصول إليها من داخل أحد الإيوانات، والباب المركب على النافذة المؤدية إلى القبة. لحسن الحظ أن هذه الأبواب الرائعة لم تنقل من أماكنها كما نقل الباب الرئيسى، الزخارف غاية فى الرقة والشفافية.

أيضا أمام المحراب، العميق، المزخرف بالرخام الملون، على جانبية لوحتان نقش عليهما:

«جدد هذا المكان المبارك حسن أغا خزيندار الوزير إبراهيم باشا بيد الفقير محمد سنة ١٠٨٢هـ».

نجتاز الباب المؤدى إلى داخل القبة، هنا بيت القصيد، الضريح الذى وضع فى الوسط مباشرة، أمام المحراب الداخلى، إنه الهدف من هذا البناء الهائل، نفس الفكرة التى تحكم منشآت العمارة المصرية العظمى كافة، فكرة الخلود، مقاومة العدم بالمادة، بالحجر، ونذكر هنا الشاعر العربى القديم الذى صرخ يوما: ليت الفتى حجر.

المفارقة الغريبة أن حسن بن قلاوون شيد هذا البنيان الهائل ليحتوى على قبره، ليدفن فيه، ولكنه قتل ولم يعثر له على جثمان حتى الآن، وبقى ضريحه خاليا منه، ولكن بقى ذكره وسيرته، وهذا ما قصده أيضا.

قبل ولوج القبة فلنتوقف قليلا عند سيرة هذا السلطان الذى لم تكن سيرته توحى بأنه سيخلف ذلك البناء العظيم.

السلطان حسن

.. دائماً مرجعى ابن إياس، عندما أشرع فى الهجرة بروحى إلى العصر المملوكى، أستخرج المراجع المعينة لى من رفوف مكتبتى، السلوك للمقريزى، النجوم الزاهرة لأبن تغرى بردى، الضوء اللامع للسخاوى، تشريف الأيام والعصور، ومفاكهة الخلان، ومصادر شتى، أقلب صفحاتها أستعيد وأستوعب، لكننى دائما أعود إلى «بدائع الزهور فى وقائع الدهور» والذى أداوم الهجرة إليه منذ ثلاثين عاما أو أكثر، لا أسمى اطلاعى على صفحاته قراءة، بل هجرة، لأننى أمتلك عبرها عصراً بأكمله تبدد، ومضى بلا رجعة، ولولا ابن إياس وغيره من مؤرخين عظام لما عرفنا شيئا عنه.

لماذا ابن إياس؟

والله لا أدرى، مع أننى أحفظ عن ظهر قلب صفحات كاملة منه يحلو لى أن أرددها عندما أكون بمفردى فى صحراء المماليك أو أجلس بمقهى فى مواجهة مدخل أثر عظيم، أو عندما أمشى من منطقة مارجرجس القبطية حتى الأزهر.

ثمة أشياء فى طريقة حكيه، فى سرده، تظل ممتنعة عن التفسير عندى، ولكنها خاصة جدا، أدركها بالحس ولا أقدر على التعبير عنها، والحديث عن ابن إياس يطول.

إذن.. سأرجع إليه بحثا عن سيرة السلطان حسن، الذى يحمل هذا البناء اسمه.

فى أحداث سنة ٧٤٨ هجرية، فى صفحة ٥١٩ من الجزء الأول طبعة محمد مصطفى «وأنصح أى قارئ لابن إياس بمطالعة هذه الطبعة التى أفنى المحقق عمره فى إتمامها، رحمه الله»، تطالعنا بداية عهد السلطان حسن، يقول ابن إياس:

«.. وهو التاسع عشر من ملوك الترك وأولادهم بالديار المصرية، وهو السابع ممن ولى السلطنة من أولاد الملك الناصر محمد ابن الملك منصور قلاوون..».

بويع بالسلطنة بعد قتل أخيه المظفر حاجى، قيل إنه لما ولى الملك كان له من العمر نحو ثلاث عشرة سنة، فقط ثلاث عشرة سنة، وكم تولى الصبية كرسى السلطنة فى العصر المملوكى، حتى إنهم نصبوا طفلا رضيعا بعد وفاة والده المؤيد، وعندما دقت الطبول تحية له أصيب بصرعة وصاحبته طوال عمره، وحدث له حول بعينيه نتيجة تلك الفزعة!

وكالعادة يطالعنا مشهد تنصيب السلطان، حيث يحضر الخليفة العباسى والقضاة وكبار الأمراء، بعد تكامل المجلس استدعوا الصبى من دور الحريم، وعندما أرادوا أن يبايعوه بالسلطنة كان اسمه قمارى لكنه قال للخليفة والقضاة:

«أنا ما اسمى قمارى، إنما اسمى سيدى حسن». فقال الخليفة والأمراء:

«على بركة الله».

بدأت المراسم، باس الأمراء الأرض بين يديه، وبدأ على الفور يمارس سلطاته، وفى سنواته الأولى شح ماء النيل، وحدث الطاعون الكبير، كان الطاعون يعقب شح الفيضان عادة ولكن هذا الوباء بالذات كان فظيعاً، وعرف فى أوروبا بالموت الأسود.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالجمعة أغسطس 28, 2009 4:48 am

يقول ابن إياس:

«وفى شهر رمضان تزايد أمر الطاعون بالديار المصرية، وهجم جملة واحدة، وعظم أمره جدا، حتى صار يخرج من القاهرة فى كل يوم نحو عشرين ألف جنازة، وقد ضبط فى مدة شهرى شعبان ورمضان من مات فى هذا الطاعون، فكان نحوا من تسعمائة ألف إنسان، من رجال ونساء، وكبار وصغار، وجوار وعبيد، ولم يسمع بمثل هذا الطاعون فيما تقدم من الطواعين المشهورة فى الإسلام».

حقا، لكم تعذب وطننا هذا، ومر بفترات شديدة الحلوكة، لذلك علمتنى قراءة التاريخ، خاصة المملوكى والعثمانى أن الشدائد تمر، ويجىء الفرج، دائماً أقول لصحبى: من يقرأ تاريخ مصر فى القرن الثامن عشر يخيل إليه أن هذا الوطن لن تقوم له قائمة، ولكن بعد أقل من قرن، ولدت دولة عظمى فى عصر محمد على باشا، هددت مقر الخلافة التركية، وتحالفت ضدها القوى العظمى كافة فى ذلك الوقت، لقد تعلم الغرب الدرس، فعندما تتماسك مصر ينطلق منها مارد جبار يؤرق الجميع، لذلك كانت المؤامرات، والاعتداءات، والقيود، والاتفاقيات، ونشاط الجواسيس، والكارهون ومن بقلوبهم مرض، حتى لا تصبح مصر قوية، مؤثرة، تقض المضاجع.

ونعود إلى زمن السلطان حسن..

فى سنة واحد وخمسين وسبعمائة، أى بعد ثلاث سنوات من بداية حكمه، يقول ابن إياس:

«جمع السلطان الأمراء، وأحضر القضاة الأربعة، ورشد نفسه وثبت رشده فى ذلك اليوم، واستعذر الأوصية من الأمراء، فأعذروا له ذلك، وسلموا إليه أمور المملكة.. »

فلما ثبت رشده، قبض على جماعة من الأمراء، وقيدهم وأرسلهم إلى السجن بثغر الإسكندرية، ويعلق ابن إياس قائلاً:

«وهذا أول تصرفه فى أمور المملكة.. »




بدأ الصبى يتصرف كسلطان حقيقى بعد أن أنهى الوصاية عليه، وبلغ سن الرشد، ولكن بعد شهور قليلة وقع المشهد الذى يتكرر كثيرا فى الزمن المملوكى، إذ لبس الأمراء آلة الحرب، وأعلنوا الثورة، وكان على رأس الفتنة الأمير طاز المنصورى، حطموا باب القلعة، وطلعوا إلى قاعة الدهيشة، وقبضوا على السلطان حسن وأدخلوه إلى قاعة الحريم!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالجمعة أغسطس 28, 2009 4:48 am

مشهد ثورة الأمراء هذا من اللحظات الدرامية فى تاريخ القاهرة، وكثيرا ما أتخيل تلك الخيول المجهزة بالسلاح والأمراء والسيوف المشهرة، بينما دور القاهرة تغلق أبوابها، والمتاجر، والأسواق تقفر من الناس، وينتظر الجميع لمن تكون الغلبة.

ولكن الشعب لم يكن متفرجا على طول الخط، إنما كثيرا ما كان يتدخل ويحسم الصراع بين الأمراء، وقد درست الأستاذة الكويتية حياة ناصر الحجى المتخصصة فى تاريخ مصر المملوكية تلك الظاهرة فى دراسة فريدة بعنوان «أحوال العامة فى حكم المماليك» صدرت منذ سنوات.

المهم أن الأمراء عزلوا السلطان حسن بعد ثلاث سنوات وتسعة شهور قضاها فى الحكم، ولوا من بعده شقيقه صالح وتلقب بالملك الصالح صلاح الدين صالح وبعد ثلاث سنوات وثلاثة أشهر وأربعة عشر يوما، لبس الأمراء آلة الحرب مرة أخرى، ثاروا عليه، خلعوه، وضربوا مشورة فيمن يلى السلطنة، وقرروا عودة السلطان حسن إلى الحكم، أخرجوه من دور الحريم ونصبوه سلطاناً للمرة الثانية.

للمرة الثانية يتم استدعاء الخليفة الذى كان جاهزًا لتلبية الطلب، لقد تحول الخليفة العباسى بجلالة قدره، ورفعة مكانته إلى مجرد موظف عند الأمراء والسلطان، ويلاحظ الأديب الساخر محمود السعدنى أن الخليفة وصل به الحال أنه كان يرفع طلبا بين الحين والآخر يطلب فيه علاوة غلاء، وزيادة كمية اللحم المصروفة له ولعياله!

سبحان مغير الأحوال.

عاد السلطان قويا، لقد أصبح شابا، عنده خبرة بأمور الصراع فى تلك السن المبكرة.

قال الشيخ شهاب الدين ابن حجلة عنه:

«غاب كالبدر فى سحابة، وعاد إلى السلطنة كالسيف المسلول من قرابه.. »

كان من رجال الدولة الأقوياء وقتئذ الأمير شيخوا العمرى، بدأ سنة ٧٥٧ فى بناء المسجد والخانقاه المتواجهين حتى الآن بشارع الصليبة قرب ميدان القلعة، لم يكن السلطان قد شرع فى بناء مسجده.

تجاه القلعة كان يقام سوق الخيل، وكان أيضا بيت يلبغا اليحياوى نائب الشام، استولى السلطان على البيت الذى كان من أجمل وأشهر بيوت القاهرة وهدمه، وأمر ببدء البناء.

ماذا كان يدور فى ذهنه عندما أقدم على تشييد هذا الصرح العظيم؟

ليتنى أعرف!

كيف تخيل المهندس العبقرى انطلاقة البناء فى الفراغ، هذه الجرأة الشاهقة، وهذا الخيال القوى، عندما بدأوا حفر الأساس وجدوا فى الرمل مرساة مركب قديم، هل يعنى ذلك أن النيل كان يمر هناك؟. تذكرنى هذه الواقعة بواقعة أخرى ذكرها المقريزى فى خططه، العثور على بقايا مركب تحت أرضية شارع المعز لدين الله، لكم تغيرت الأمكنة، ولكن عذابات الإنسان باقية.

يقول المؤرخون إن السلطان وجد كنزا فيه ذهب يوسخى، عند حفر الأساس، ومنه أنفق على البناء الهائل الذى يفوق إيوانه القبلى إيوان كسرى، ولكن قيل مثل هذا عن ابن طولون أيضا.

نسب الطواشى مقبل إلى السلطان قوله: «لولا أن يقال إن ملك مصر عجز عن إتمام بناء بناه لتركت بناء هذا الجامع من كثرة ما صرف عليه».

وهذا حق، لكن ما يثير تأملى، هو ضخامة البنيان مع أن السلطان نفسه لم يكن من السلاطين العظام، لم تطاول قامته قامة والده الناصر محمد، أو الذين جاءوا من بعده، قايتباى، برسباى، المؤيد، برقوق، ومع ذلك لم يشيد واحد من هؤلاء مسجدا يقارب مسجد السلطان حسن، ربما يعنى ذلك أن خوفو لم يكن أقوى ملوك الدولة القديمة، وفى رأيى أن الهرم وهذا المسجد يعكسان حالة إبداعية خاصة تتفجر فى الشعب المصرى الذى يفوق كمونه ما يمكن أن يبدو على السطح منه، فلا يفهمه الأغراب ولا الأقارب.

كل من مر بهذا الصرح وقف مبهوراً، متأملاً، كلهم قالوا ورددوا ما معناه أنه ليس له نظير فى الدنيا، ولنا أن نتخيل البناء فى الفراغ المحيط به، قبل بناء مسجد الرفاعى، وقبل أن تحجبه مبانى شارع محمد على القبيحة، تماما كما أخفينا أعظم آثار الدنيا، الأهرام بالمبانى والفنادق والمساكن الشعبية، حتى ليقف الإنسان الآن على بعد عشرات الأمتار منه ولا يراه!

دائمًا لا أعيش وقتى، إنما أنا راحل أبدا فى الزمان حتى تتم رحلتى، وتنغلق دائرتى، وساحات المساجد نقاط انطلاقى، ومحطات وصولى أيضا، أقف فوق موضع من الأرض، فأسأل نفسى عمن مر فوقه، ومن عبره؟

يوم افتتاح المسجد للصلاة، من حضر، ومن شهد، أجهد مخيلتى حتى أكاد أرى الجمع، فأصبح واحدا منهم، أما دليلى فهو شيخى ابن إياس، حتى وإن لم يكن معاصرا وشاهداً بنفسه. لما تمت العمارة نزل السلطان من القلعة، وصلى بها صلاة الجمعة، واجتمع بها قضاة القضاة الأربعة والأمراء وهم فى كامل أبهتهم - بالشاش والقماش - وملئت الفسقية التى تتوسط الصحن والباقية حتى الآن، ملئت بالماء المذاب فيه السكر والليمون، وقف عليها جماعة من السقاة يفرقون الليمونادة على الناس بالطاسات السلطانية.

أكاد أشم عبير المشروب، وأصغى إلى رنين الطاسات إذ تحتك ببعضها.

بعد الصلاة أخلع السلطان على كل من شارك فى البناء أى قدم إليهم أوسمة العصر، وكانت من الملابس، قدم هداياه إلى المشدّين - المشرفين - والمهندسين، والمعلمين، والمرخمين، فنانى الرخام - والسباكين، والحدادين، والمبلطين، وغير ذلك من أرباب الصنائع، حتى الفعلة، والترابة - كما يقول ابن إياس - نعم.. حتى الفواعلية أهداهم السلطان خلعا وكرمهم، ومن هؤلاء مات كثيرون تحت الردم، وإليهم دائماً يروح فكرى، كلنا نعرف خوفو، لكن من يعرف منا اسم عامل فقير ساهم فى حمل الحجر، أو حفر النقوش.

كلنا نعرف السلطان حسن، لكن.. من منا يعرف أولئك الفعلة والترابة. أولئك المجهولون الذين جاءوا وعملوا فى صمت ورحلوا إلى مجاهل التاريخ بعد أن خلفوا هذه العمارة وتلك النقوش، وهذه الظلال التى لا ترى.

إلى هؤلاء، أحن، وأرحل.

______________________________________________
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالجمعة أغسطس 28, 2009 4:49 am


قصيد الحجر.. بنيان الرضا وعمارة السكينة فى «السلطان حسن» (2) المحراب.. باب الروح

كتب جمال الغيطانى ٢٤/ ٨/ ٢٠٠٩

المحراب من رخام، بابه مغطى بالنحاس المنقوش، أطباق نجمية من اثنى عشر جزءاً كل منها مستقل بذاته، متصل بما يليه، الدائرة موزعة على مصراعى الباب، هكذا النقوش الغزيرة التى تغطى مصراعى النافذة الضخمة المؤدية إلى القبة.

هنا أتوقف، بالتحديد أمام المحراب، أستدير متمهلاً، أتطلع صوب القبة الخشبية فى المنتصف، دائماً فى المنتصف نجد الماء، الماء أصل كل شىء حى، له المركز، تظلله قبة كتب عليها من الداخل سورة الكرسى.

أعبر القبة بالبصر، أسافر بالنظر إلى الإيوان الغربى، تتوسطه نافذة تصل البيمارستان بصحن المسجد، الإيوان مخصص للمذهب الحنبلى، الجدران شاهقة الارتفاع، خالية من الزخارف، فقط دائرة قرب النهاية العلوية، دائرة دقيقة الزخارف، منمنمات من الجبس والحجر، دائرة مشبعة غزيرة، مشعة بالإيحاء، السلطان حسن بشكل عام قليل الزخارف، ولكن الزخارف الموزعة فيه وضعت وفقاً لمقياس رهيف، شديد التأثير،

يبهرنى ذلك التوازن بين الزخارف السابحة فى الأعالى، على هذا الارتفاع وسط سديم من الفراغ وبين التكوين الهائل للعمارة، توازن لا مثيل له، حضور تلك الدائرة فى إطار هذا الفراغ الهائل يمنحها قوة حضور هائلة، إنه نغم قوى، رقيق، جميل، فى ظل الصمت الذى يوازيه تلك المساحة الخلو من أى خدش، لذلك كان الظهور القوى لتلك الدائرة الحاوية للأغصان والأوراق والدوائر، العدم يؤدى إلى الحضور، العدم لا يؤدى إلى عدم.

ثمة دائرتان مماثلتان على نفس الارتفاع، نفس المستوى، دائرة فى الإيوان المالكى والأخرى مواجهة لإيوان المذهب الشافعى، من هنا تنبع النغيمات الخفية وتتواصل موسيقى البناء، لا يمكن تحديد بدايتها أو نهايتها، تماماً مثل شكل الدائرة المتكرر هنا بأكثر من صورة، وأكثر من حجم وهيئة، غير أن اللحن يبزغ فجأة قوياً، يطغى على الموجودات المحيطة، إنه حنو الإيوان الغربى على القبة التى تعلو موضع الماء فى المنتصف.

القبة استدارة

استدارة علوية تحيط بالاستدارة النابعة من دائرة القبة

زاوية يمكن من خلالها الإصغاء إلى الموسيقى الخفية التى تسرى فى عمارة المكان، قبة الميضأة فى المنتصف، عندما أدخل إلى البيمارستان وأتوقف أمام النافذة التى تصله بالصحن المكشوف، أرى القوس الحجرى الأعظم محتوياً القبة، استدارة تحيط باستدارة فى حساسية مرهفة ودقة مستنفرة لكل ما هو رقيق داخل الإنسان.

ثمة استدارة أخرى من داخل البيمارستان، إنها أعلى المحراب، كل شىء بقدر، الصحن يجسد رحلة الحياة، سماء وأرضاً، وانعكاس الكواكب والنجوم على الأرضية التى أعبرها على مهل بعد تأمل العلاقة بين المئذنة القبلية والقبة فى منتصف الصحن التى تظلل المياه، تعامد واتصال مرهف بين استقامة المئذنة ودائرية القبة، بين الاستقامة والانحناء، بين المستطيل والتكوير، بين النوعين المتضادين والمكملين لبعضهما البعض.

عبور الصحن يعنى اجتياز الحياة، إذ أصل إلى المحراب فى الإيوان الشرقى المتجه إلى الكعبة فكأنى اجتزت أيامى وقاربت الختام، أتأهب لدخول القبة، القبة حيث المثوى الأبدى تحت مركزها، إنه الضريح، الهدف الحقيقى لكل من أنشأ مسجداً أو مدرسة، أن يرقد فى ثراها، أن يذكره الناس، أن يبقى اسمه ملفوظاً، معروفاً، إنه نفس المضمون المصرى القديم.

أتوقف عند العتبة.

العتبة الفاصلة

■ ■ ■

أتأهب للدخول إلى الحيز المعتم، المظلل بالعدم، أتذكر دخولى عبر الباب الرئيسى إلى المدخل ثم إلى الدهليز المؤدى إلى الصحن، ها نحن نقترب من الخطوة الأخيرة، أوشك القوس الآخر على الظهور، الدهليز المؤدى رحم أصغر، والقبة رحم أكبر، إنه رحم الأرض الذى يؤول إليه كل سعى.

عند العتبة أرفع البصر إلى أعلى، إلى الركن المقابل، المواجه من القبة.

أى مهابة، أى شسوع هذا، رغم محدودية المسافة إلا أنها تبدو بلا نهاية.

الارتفاع ثمانية وأربعون متراً، كل ضلع واحد وعشرون متراً، نحت على هيئة مربع، أما القبة فدائرية، من المربع ينتقل البناء إلى الدائرى عبر المقرنصات، هنا نلحظ خصوصية هذه المقرنصات الخشبية الملونة، تبدو الخطوط عليها مكونة أشكالاً غريبة، غير أننى بالتدقيق ألمح ما يشبه الجعران المصرى القديم، مثل هذه المقرنصات لم أعرف مثيلاً لها إلا فى قبة قلاوون.

يذكر الرسام الفرنسى بريس دافين أن القبة سقطت سنة ١٠٧١هـ، (١٦٦١م)، وكانت فى الأصل أعلى ارتفاعاً، أما باطنها فممتلئ بالنقاش، جددها إبراهيم باشا سنة ١٠٨٢هـ (١٦٧١م).

القبة تعنى أنها تقوم فوق ضريح، المقبرة موجودة بالفعل، ومن المفارقات أن السلطان حسن قتل ولم يعثر له على جثة، يرقد فى القبر ابنه الشهاب أحمد المتوفى فى ١٤ جمادى الآخرة سنة ٧٨٨هـ (١٣٨٦م).

قرب المنتصف، فى الجدران الأربعة، نرى أربع دوائر متواجهة، متماثلة، متوازنة، متقابلة، داخل كل منها حشوات وزخارف جصية، أما ما يستوقفنى فتلك الزخارف الحمراء الداكنة النابعة من الدائرة، كأنه ذلك اللهب المنبعث من قرص الشمس الذى يقذف من أعماقها إلى مسافات قصية من الفراغ، أربع شموس متواجهة، رسوم تفيض بالحركة والحيوية، حواف الشموس مشتعلة، على الجدار الغربى، إنه شرقى بالنسبة لى عند وقوفى أمام المحراب، هكذا الأمر دائماً نسبى، ما هو شرقى هنا يمكن أن يكون غربياً، ولكن.. من هناك تشكيل زخرفى دائرى تتوسطه دائرة حمراء، من نفس خامة الرخام التى نجدها فى المعابد المصرية القديمة والكنائس، تعددت الديانات ومواد العمارة من نفس تلك الأرض، غير أن ما يتشابه فيها أيضاً الرؤية، تلك نجدها فى تصميم المبانى، فى الزخارف، فى التكوينات، فى الفلسفة الكامنة.

■ ■ ■

يبهرنى فى القبة الخط المكتوب قرب المنتصف، خط لم أعرف له مثيلاً فى أى مسجد أو مخطوط. خط فيه من تآلف العراقة والحداثة ما يذهل. فيه جرأة، فيه تفنن وتوثب، تحت القبة كرسى مصحف به حشوات على هيئة الطبق النجمى - أربعة وعشرين - مطعمة بالعاج والأبنوس. العاج أبيض والأبنوس أسود، فكأن الليل والنهار يتداخلان هنا، الزخارف من أدق ما رأيت، كأنها إشارات لأخرى لا يمكن لنا أن نطلع عليها.

أطوف به، أحياناً أنتظر وقت الأذان لأسمع صوت المؤذن الجميل، ولأصغى إلى الأصداء التى ترد إلينا من زوايا القبة وأركانها، تلك المرئية والأخرى الخفية، للأصوات فى السلطان حسن وضع خاص، بمجرد عبور الباب الرئيسى تتبدل طبيعة الأصوات القادمة من الخارج، أو الشارع أو أى مكان يحيط البناء، تبدو كأنها مقبلة من عالم لم نألفه بعد، ناءٍ، قصى، وهذه خاصية متممة للظلال والألوان وتكوينات المعمار، هذه العناصر كلها تتسرب على مهل إلى الروح لنخطو فى عالم شفاف يبعث فينا قدراً صافياً من الرضا، نعم، هذا البناء الهائل يبث فينا الرضا بالتحديد.

لذلك أجد نفسى والمفقود منى فيه، فى الشتاء أهفو مغمض العينين إذ أرهف السمع مصغياً إلى سجع الحمام والطيور الغريبة المهاجرة من بعيد التى تأوى إلى مكامنها أعلى البنيان، مع اقتراب المغيب، تتزايد أصوات الليل فلا أدرى أهى تخشى الظلام المقبل أم ترحب بظهور النجوم والكواكب، أم لأنها تخشى الاقتراب من حافة الوقت؟

محمد بن بليك

لقرون حار العلماء والرحالة وكل الذين توقفوا منبهرين بهذا المعمار، لابد أنهم تساءلوا: من المهندس العبقرى الذى خطط، من الذى شيد؟

لقرون ظل اسم المهندس مجهولاً، خفياً، لم يذكره المقريزى ولا أى مؤرخ آخر، لم يعثر أحد على إشارة تدل إليه، هكذا معظم أعمال العمارة الإسلامية، يعرف البناء باسم من أمر بتشييده وليس بمن خطط وأبدع وشيد بالفعل، فى مساجد القاهرة لم أعثر إلا على اسم فنان قام بإبداع الزخرفة فى محراب قجماسى الإسحاقى.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالجمعة أغسطس 28, 2009 4:49 am

ماعدا ذلك يظل أولئك المبدعون فى العتمة. جاءوا من المجهول ومضوا إلى المجهول، كان ممكناً للمهندس العبقرى المتوارى أن يظل فى دائرة العتمة لولا محب، عاشق، متخصص فى الآثار المصرية، هو حسن عبدالوهاب، فلنصغ إليه إذ يحدثنا عبر كتابه الجميل «تاريخ المساجد الأثرية فى القاهرة»، يقول ما نصه:

«وفى يوم ١٤ نوفمبر ١٩٤٤، أثناء اشتغالى بمراجعة كتابات الجامح لنشرها مع أستاذى الجليل مسيو فييت ضمن مجموعة الكتابات التاريخية الجارى نشرها - عثرت فى المدرسة الحنفية على اسم المهندس مكتوباً فى طرازها الجصى بما نصه:

«بسم الله الرحمن الرحيم، إن المتقين فى جنات ونعيم ادخلوها بسلام آمنين ونزعنا ما فى صدورهم - إلى قوله تعالى: وما هم منها بمخرجين. اللهم يا دائم لا يفنى من نعمه لا تحصى، أدم العز والتمكين والنصر والفتح المبين ببقاء من أيدت به الإسلام والمسلمين وأحييت... حسن ابن مولانا السلطان الـ.......، عنه على ما وليته وخلده فى ذريته كتبة تحمد دولته، وشاد عمارته محمد بن بليك المحسنى..».

الله.. الله

أخيراً كشف لنا حسن عبدالوهاب عن العقل الذى يقف وراء هذه العمارة، دائماً أدخل المدرسة الحنفية بعد نهاية رحلتى هنا، الباب إلى يمين الإيوان القبلى، تكوين من تكوين، غرف الشيوخ والطلبة، العمارة على هيئة المدرسة، لكل مذهب شيخ ومائة طالب، من كل فرقة خمسة وعشرون متقدمون وثلاثة معيدون، وعين مدرس لتفسير القرآن وعين معه ثلاثون طالباً، عهد إلى بعضهم أن يقوموا بعمل الملاحظة، وعين مدرس للحديث النبوى، ومقرئ لقراءة الحديث، وثلاثون طالباً يحضرون يومياً عُهد إلى بعضهم أن يقوموا بوظيفة النقيب، والبعض الآخر يقوم بوظيفة داع للسلطان عقب الدروس،

ثم عين بالإيوان القبلى بالجامع شيخ مفتٍ، ورتب معه مقرئ مجيد للقراءة على أن يحضر أربعة أيام من كل أسبوع، منها يوم الجمعة فيقرأ المقرئ ما تيسر من القرآن وما تيسر من الحديث الشريف، وعين مدرس حافظ لكتاب الله عالم بالقراءات السبع ليجلس كل يوم ما بين صلاة الصبح والزوال بالإيوان القبلى، وقارئ آخر يجلس معه ليلقن القرآن لمن يحضر عنده، ثم عين اثنان لمراقبة الحضور والغياب، أحدهما بالليل والآخر بالنهار، وأعدت مكتبة لها أمين، وألحق بالمدرسة مكتبان بمدرسيهما لتعليم الأيتام القرآن والخط، وقرر لهم الكسوة والطعام، فكان إذا أتم اليتيم القرآن حفظاً يعطى خمسين درهماً ويمنح مؤدبه خمسين درهماً مكافأة له، وعين طبيبان مسلمان أحدهما باطنى والآخر للعيون، يحضر كل منهما كل يوم بالمسجد ليداوى من يحتاج إلى علاج من الموظفين والطلبة، ورتب طبيب ثالث جراح، وقد أرصد فى وقفيته رواتب الأساتذة والطلبة والموظفين، وقيمة ما يصرف لهم من المأكل كل ليلة جمعة وما يصرف لهم فى الأعياد.

أستعيد ما ذكره المقريزى وعلى باشا مبارك وحسن عبدالوهاب أثناء تجوالى وتدققى. غير أن الجملة التى تتردد فى وعيى بعد خروجى من المدرسة الحنفية تلك المنقوشة فوق الجدار الداخلى البعيد عن العيون والأبصار إلى درجة أن أحداً لم يلحظها طوال تلك القرون، حتى قرأها وفسرها ونشرها المرحوم حسن عبدالوهاب، كلمتان فقط أرددهما:

وشاد عمارته..

ثم أكمل..

وشاد عمارته محمد بن بليك المحسنى..

إذن علمنا اسم من شاد العمارة، ومحمد هذا ينتمى إلى أسرة قديمة عرفت منذ عصر المنصور قلاوون، ما نعرفه عنه أنه وقف إلى جوار السلطان حسن فى محنته مع الأمير يبلغا، ثم تغيبت أخباره تماماً. مرة أخرى أذكر المهندس العبقرى سنموت الذى صمم وشيد معبد الدير البحرى فى البر الغربى لعشيقته الملكة حتشبسوت، كتب اسمه على الأبواب فى المعبد ولكن من الخلف حتى لا يراها أحد، كان الكهنة يدخلون فيدفعون الأبواب، يرون فقط ما يواجهونه، لم يكن سنموت معنياً بأن يرى أحد اسمه، المهم أن يبقى، المهم أن يسجله على المعبد الذى أبدعه، كذلك فى مقبرته، كتبه ثم أخفاه بطلاء، ثم كتبه مرتين، كما توقع، دمر أعداؤه الاسم فى الطبقة الأولى واكتشفوا الثانية أيضاً غير أن الثالثة ظلت وهكذا عرفناه.

هكذا الحال فى السلطان حسن، حرص محمد بن بليك المحسنى على أن يكتب اسمه ولكن بعيداً عن الأنظار، داخل أكبر المدارس الأربع، الحنفية، فى شهر جمادى الأولى سنة ٧٦٢هـ (١٣٦١م) قتل السلطان حسن، كانت المدرسة كاملة عدا بعض أعمال تكميلية أتمها من بعده الطواشى بشير الجمدار. أتم أعمال الرخام خاصة بالأرضيات، والقبة الخشبية فوق الفسقية، وعمل المصراعين الكبيرين للباب الرئيسى الذى استولى عليه السلطان المؤيد شيخ، ونقرأ عليه:

«أمر بإنشاء هذا الباب المبارك العبد الفقير إلى الله تعالى مولانا السلطان الشهيد أبوالمعالى حسن ابن مولانا السلطان الشهيد الناصر محمد بن قلاوون وذلك فى سنة أربعة وستين وسبعمائة..».

ثم أتم بناء القبة الكبيرة، هذا مجمل ما قام به بشير الجمدار، ولكن ثمة مهندس ثالث، مهندس لا نعرف عنه شيئاً ولا حتى اسمه، إذن. كيف وصلنا أمره، لقد ترك لنا رسالة غريبة، غامضة، فى أوضح مكان وأشده ظهوراً، فى الواجهة تماماً، رسالة يمكن أن يمر أمامها من يجهل، ولكن سوف يتوقف أمامها طويلاً من يعرف ويلم. إلى يمين الداخل، وإلى يسار الخارج، أتوقف دائماً أمام تلك الرسالة بعد تمام الزيارة، أى بعد خروجى، أتجه إلى اليسار، ثمة قائم - دعامة - نحيل، مقسم إلى ستة سطوح فوق بعضها، متعاقبة، داخل كل منها رسوم بارزة، نرى بداخلها أقواساً وأعمدة غريبة على أى طراز عربى، إنها أعمدة أقرب إلى الطراز البيزنطى وأيضاً القوطى، نرى بيتاً صغيراً محدود بالسقف وعليه قرميد مثل البيوت الأوروبية، فى المربع الذى تليه ملامح مكان عبادة.

إذن المهندس أجنبى عن البلاد، ربما جاء من بيزنطة أو فينسيا وشارك فى أعمال التصميم والبناء، ربما - وهذا الأرجح - كان رقيقاً وتم أسره وعاش بين حاشية السلطان، ربما كان مسيحياً عاش فى بلاد السلاجقة ودرس الطرز الإسلامية، إن ذكاءه الخارق فى حفر هذه العلامات التى تدل عليه، فى أوضح مكان يمكن تصوره، وأحياناً تكون قمة الإخفاء فى أشد الأماكن ظهوراً وأبعدها عن الاحتمال، هذا الذكاء فى اختيار موقع رسالته إلى من يفهم يجعلنى أوقن أنه مصمم هذه العمارة التى لا مثيل لها، لم يخف اسمه مثل محمد بليك داخل المدرسة الحنفية، إنما جاهر به فى أوضح الأماكن، محمد بن بليك شاد العمارة أى المشرف العام.

وتلك الرسالة تدل على من صمم، وتدل على أنه ما من شىء يمكن أن يوقف أو يمنع أو يحد من قدرة الإنسان على ترك علامة تدل عليه إذا ما أنجز عملاً رائعاً ولم يذكر اسمه، إبداع فى إطار الإبداع، لن نعرف شيئاً أبداً عن صاحب هذه الرسالة، كما أننا لن نعرف شيئاً عن الآلاف الذين حفروا، ورصوا الحجر وسووا الرخام ورتبوا الزخارف ومات بعضهم تحت الردم، فقط تركوا لنا أنفاسهم بين الأحجار والنقوش التى أعتبر بعضها شكلاً من العبادة، كذلك الخطوط التى كتبت بها الآيات القرآنية، وأودعوها أيضاً موسيقى البنيان التى تسرى عبر روحى مضفية عليه السكينة والرضا بما كان وما سأصير إليه.

جمال الغيطانى

عند العتبة أرفع البصر إلى أعلى، إلى الركن المقابل، المواجه من القبة.

أى مهابة، أى شسوع هذا، رغم محدودية المسافة إلا أنها تبدو بلا نهاية.

لن نعرف شيئاً عن الآلاف الذين حفروا، ورصوا الحجر وسووا الرخام ورتبوا الزخارف ومات بعضهم تحت الردم، فقط تركوا لنا أنفاسهم بين الأحجار والنقوش التى أعتبر بعضها شكلاً من العبادة، كذلك الخطوط التى كتبت بها الآيات القرآنية، وأودعوها أيضاً موسيقى البنيان التى تسرى عبر روحى مضفية عليه السكينة والرضا بما كان وما سأصير إليه
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالجمعة أغسطس 28, 2009 4:50 am

تجليات مصرية.. السعى إلى الطريق الأعظم

كتب جمال الغيطانى ٢٥/ ٨/ ٢٠٠٩


قبة ومأذنة مدرسة ألجامى اليوسفى

من الجهة البحرية لمسجد الرفاعى أبدأ السعى إلى مدخل الدرب الأحمر، الطريق ينحدر من أعلى إلى أسفل باتجاه شارع محمد على. إلى يمينى ترتفع الأرض حيث يطل بيت حسن فتحى، منزل أثرى قديم شيد فى العصر العثمانى.

آخر من امتلكه مصطفى اللبان، كان مقراً لمجموعة من الفنانين فى الأربعينيات، بينهم رمسيس يونان الذى دعا إلى السيريالية واستلهمها فى لوحاته، البيت آلت ملكيته إلى أغاخان، زعيم الطائفة الإسماعيلية، أحفاد الفاطميين الذين انقسموا إلى فرعين بعد انهيار دولتهم فى مصر وخروجهم إلى اليمن، ثم إلى الهند، الفرع الآخر هم البهرة، وللإسماعيلية والبهرة أعمال مهمة فى ترميم الآثار الفاطمية على أساس أنها من منشآت أجدادهم الفاطميين.

غير أن أغاخان امتد نشاطه ليشمل المدارس والمساجد المملوكية، ويوجد الآن فى القاهرة عدد من أبناء طائفة البهرة يقدر عددهم بحوالى عشرة آلاف، اشترى بعضهم دكاكين وبدأوا الاشتغال بالتجارة، ويمكن تمييزهم فى القاهرة القديمة من لباسهم الأبيض وهم يسعون للصلاة فى مسجد الحاكم بأمر الله، إننى أتأملهم وأتساءل عن الزمن اللازم لذوبانهم فى المجتمع المصرى، مصر لم يحتفظ فيها أحد بهويته، أذكر أننى فى طفولتى كنت أرى زفة العجم، تجار المكسرات والتنباك، الذين استقروا فى التنبكشية، كانوا يمشون فى موكب يوم عاشوراء قاصدين مسجد سيدنا ومولانا الحسين، كانوا يضربون صدورهم بقبضات أيديهم حزناً على مصرع الحسين، بعكس التقليد السائد منذ العصر الأيوبى.

إذ كان المصريون يضعون الحلوى الشهيرة من اللبن والقمح ويتناولونها فى هذا اليوم، تقليد بدأه الأيوبيون نكاية فى الفاطميين الشيعة، وأذكر بعض الباعة الذين كانوا يطوفون بالحوارى حاملين ألواحاً خشبية عليها أنواع من الحلوى الملونة، بعضها أصفر، أو أحمر، اختفوا من القاهرة فى الستينيات وبقيت هذه الحلوى الشهيرة بعاشوراء، وقد توقفت عن تناولها منذ معرفتى بأصل نشأتها فذكرى مقتل الحسين ليست فرصة لتناول الحلوى، لم يكن لى عذر بعد أن عرفت، عرفت تجار العجم فى التنبكشية وخان الخليلى، بل عرفت هنوداً وأفغاناً وبلوشاً وبالطبع مغاربة،

الجيل الأول يتحدث كل بلكنة البلد الذى جاء منه، بعد مضى عدة سنوات يبدأ فى الحديث باللهجة المصرية، فى الجيل الثانى لا يتبقى أى أثر من المنشأ الأصلى، لا لغة ولا لهجة، الركائز الثقافية للمجتمع المصرى تهضم أى غريب، هذه الخاصية القادرة على الاحتواء حمت المجتمع المصرى من الطائفية والشقاق المذهبى فى بعض البلاد العربية يعرف الناس من أسمائهم، لا أقصد المسيحى والمسلم، لكننى أعنى السنى والشيعى، فى مصر لا يوجد تمذهب، ولا توجد أماكن يقصر سكناها على اتباع دين أو أبناء عرق بعينه،

فى القاهرة ثلاثة عشر معبداً يهودياً تتوزع عمارتها على القاهرة من العباسية إلى المعادى، بجوار الأزهر، على بعد أمتار قليلة أضخم وأقدم مجموعة قبطية تضم أربع منشآت، كنيسة العذراء وكانت مقراً للبابوية عند دخول العرب إلى مصر، وبجوارها كنيسة الأمير تادرس الشاطبى أحد القديسين التابعين للكنيسة القبطية، ثم دير للرهبان ودير للراهبات، قدرة مصر على تطويع العناصر الوافدة، وتعايش الأديان والطوائف مرتبطة بقوتها الثقافية، واستقرارها، وشعور أبنائها بمضمونها الروحى، عندما يستقر المصريون يصبحون مصدرين للأفكار والرؤى،

وعندما تضعف وتهن تحدث الاختراقات المذهبية، وتبدأ الحزازات الطائفية، ولكن عبر التاريخ وفى أشد الظروف حلكة كانت الأمة المصرية قادرة على تجاوز المخاطر التى تهدد كيانها المتماسك، منذ السبعينيات تضعضت الأحوال، وجرى الاختراق الوهابى الذى أعتبره الخطر الأعظم بعد أن أصبح مدعوماً بقوة مالية تتوجه إلى الشأن الثقافى بمعناه العام، ومظاهر هذا التأثير السلبى عديدة، بعضها يتنامى فى ظل التشدد الذى يمثله هذا المذهب الذى لا يأخذ من الإسلام إلا المظاهر،

لقد كانت الدعوة الوهابية حركة متقدمة فى صميم الصحراء، التى ضل أهلها عن الدين الحنيف، لكنها عندما تسللت إلى بلدان عريقة اعتنقت الإسلام ونشرته من خلال رؤية أقرب إلى مضمون الإسلام القائم على التسامح واحترام الديانات الأخرى، الآن ونحن فى نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة الميلادية تمر مصر بمرحلة وهن، ويلوح فى تماسكها شقاق، وأزهرها ليس فى أقوى حالاته، هل تحتفظ بقوتها الثقافية الكامنة التى تؤثر ولا تتأثر؟، هذا السؤال تحتاج إجابته إلى رصد،

لذلك أتابع العناصر الوافدة إلى المجتمع المصرى خلال الأعوام الأخيرة، سواء كانوا بهرة أو عراقيين، أو أجانب، بماذا تأثروا، وبماذا أثروا؟ أتمنى أن تكون لدى مراكز البحث العلمية المتخصصة وسائل بحث حول العناصر الوافدة، ليس البشر فقط، إنما ما يتدفق علينا من خلال الوسائط الحديثة، التى تتدفق مختلف الاتجاهات من خلالها بعد تقدم التقنيات الحديثة للاتصال.

ما تأثير هذه الوسائط من فضائيات وشبكة الاتصالات الدولية وما يستجد على الخصوصية المصرية التى أسهمت فى تماسك المجتمع عبر آلاف السنين وتحت أعتى الظروف، حتى إن مصر حولت أعتى المستعمرين منذ البطالمة وحتى الأتراك والفرنسيين والإنجليز إلى ثقافتها ومضمونها، الفرنسيون تحدثوا العربية، وادّعى نابليون الإسلام، فى حضارات أخرى قديمة وعريقة انهارت اللغة، ولنا فى الهند مثال، أتمنى فى خضم مشاكلنا الاهتمام بهذه الأمور التى تبدو ترفاً الآن وهى ليست كذلك.

تتوالى التداعيات وأنا أخطو باتجاه المدخل المؤدى إلى صميم الدرب الأحمر، إننى أمشى فى نفس الطريق الذى كان يعبره السلاطين والأمراء المتجهون على رأس التجاريد العسكرية قاصدين الخروج للجهاد، إنه بداية الشارع الأعظم الذى ينتهى عند باب الفتوح، بعد أن أصبحت القلعة مركزاً للحكم بعد انهيار الدولة الفاطمية.

هاأنذا أقترب من مدخل الطريق، الذى لا يبدو واضحاً لمن يعبر، لا بوابة ضخمة ولا معلم غير عادى، مدخل عادى ولولا بقايا القصر الأميرى إلى يسار الداخل لما بدا شىء يلفت النظر، لنلحظ هنا أن الطريق الأعظم يمضى من الجنوب إلى الشمال، نفس مسار النيل، دائماً ثمة حوار مع النهر مع تهيبه، واحترامه.

هذا النهر الذى لم تهدر كرامته إلا فى العقود الأخيرة بعد أن أمن المصريون أخطاره بفضل السد العالى، كان من المفروض اتخاذ إجراءات تكميلية للسد لتفادى آثاره الجانبية، وأهمها فقدان هيبة النهر، تجرأ الناس على الأراضى الزراعية فالتهمها البناء بعد أن كانت تغمرها المياه وتهدد كل من يقيم بها، وألقى القوم مخلفات المصانع فى النهر المقدس كذلك مياه الصرف الصحى، وتضعضع المجتمع بعد زوال خطر الفيضان، الذى كان يقوى لحمة وسدا المجتمع، وقت الخطر يقف المسلم إلى جانب المسيحى كتفاً بكتف لدفع خطر الفيضان الذى سيغمر الجميع، بعد زوال الخطر زال الشعور بالتماسك فظهر الشقاق، فى العاصمة أظهر الأثرياء الجدد أنانيتهم، فارتفعوا بالأبراج على ضفتى النيل مباشرة، رغم أن القانون المكتوب يقضى بالتدرج فى البنيان سواء على النهر أو البحر، الفساد الإدارى تخطى هذا القانون أمام سطوة المال، وهكذا تحول النهر إلى نفق مائى فى العاصمة، وتم اغتيال البحر فى الإسكندرية بطريق سريع للسيارات،

والغريب أننا نتباهى بهذا الطريق، وما يسمى «كوبرى ستانلى» الذى دمر هو أحد أجمل شواطئ الثغر، أصبح الكوبرى المنقول عن قصر المنتزه معلماً يردد التليفزيون صورته من منطلق المباهاة، وكان المفروض محاسبة المسؤولين عن ارتفاع الأبراج على البحر، وتوسيع هذا الطريق.

لكن لماذا أشغل نفسى بالإسكندرية والنهر، فلأنتبه، إننى موشك على ولوج الدرب الأحمر، إنه طريق المواكب والاحتفالات وكذلك الثورات، كان موكب السلطان فى العصر المملوكى أو الوالى العثمانى ينزل من القلعة فيسلك هذا الطريق المؤدى إلى ما يعرف الآن بسوق السلاح، الذى يليه درب التبانة «من التبن وهو علف الخيول»، ويفضى هذا إلى باب زويلة أو بوابة المتولى، البوابة الجنوبية للقاهرة التى لاتزال على نفس الهيئة التى شيدها بها الوزير بدر الجمالى الأرمنى الأصل، تعلوها مئذنتا المؤيد شيخ، إضافة فى العصر المملوكى.

الطريق الآخر يمر من شارع الصليبة الذى يقع عند بدايته الآن واحد من أصعب السجون حالاً، سجن الخليفة المخصص لتوزيع المحكوم عليهم إلى السجون التى سيقضون فيها مدد الأحكام أى أنه مقر مؤقت، مكان للعبور، سجن نقالى مثل مقاهى الطرق ومطاعم النواصى، حيث علاقات عابرة جداً يتسم معظمها بالبدائية والعدوانية، عندما أبدأ تجوالى الصباحى أرى العائلات تقف منتظرة، متطلعة، قد يجرى لقاء سريع هنا، وقد يجرى توصيل مؤونة أو ملابس أو طعام.

ينحدر الشارع باتجاه ابن طولون، يمر أمام سبيل قايتباى وخانقاه ومسجد الأمير شيخون، وسبيل أم عباس، كانت المواكب تتجه إلى باب زويلة عبر شارع الصليبة، غير أننى أفضل الدخول إلى الدرب الأحمر من سوق السلاح، نلاحظ أن السوق مخصصة للسلاح أى ما يلزم السلطة الحاكمة، يليه درب التبانة حيث التبن الخاص بالخيول، والخيول كانت القوة الضاربة فى الجيش المملوكى، وتوازى المدرعات الآن، إنها الأسواق الضرورية للسلطة الحاكمة.

إلى يسارى نرى أطلال قصر قديم، لم تتبق منه إلا أطلال، لكن يمكننا تمييز الرنك، أى شعار الأمير صاحب القصر أعلى البوابة، الرنك دائرى الشكل، نرى سيفاً داخل الدائرة، إنه الأمير منجك السلحدار، المسؤول عن التسليح وخزائن السلاح وهذا منصب جليل القدر، عظيم الشأن، لذلك شيد الأمير منجك قصره بحيث يمكنه رؤية القلعة مقر الحكم، وذروة الهرم السلطوى، التدرج المعمارى يوازى التدرج الوظيفى، كثيراً ما أتأمل بعض مقابر الدولة القديمة، مرقد الفرعون يليه مرقد الوزراء ثم كبار رجال الدولة، وأخيراً الخدم ومن يشكلون أسفل السلم الاجتماعى، نفس التقسيم الدنيوى فى المراقد الأخروية.

لكن.. آه لو يعلم بناة القصور نهاياتها، كلما مررت فى الحلمية أمام قصر أصبح مركزاً للشرطة، أو مدرسة، أو مقراً لحزب، أو مكتباً للصحة، أو خرابة، وما أكثر الخرابات فى القاهرة القديمة، وكلما مررت بأحد هذه القصور وما آلت إليه، أردد هذه العبارة «آه لو يعلم بناة القصور نهاياتها».

غير أن ظهور مئذنة وقبة مدرسة الأمير ألجاى اليوسفى «بضم الألف» يستنفر انتباهى، فهذه عمارة جالبة للسكينة، وبمجرد ظهورها يبدأ ترتيل سورة الرحمن داخلى، فلم أعرف بناءً تتحقق فيه تلك القدرة على التوازن مثل مدرسة ألجاى اليوسفى.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالجمعة أغسطس 28, 2009 4:52 am

فلنقرأ هنا سورة «الرحمن» مسجد ومدرسة أُلْجاى اليوسفى

كتب جمال الغيطانى ٢٦/ ٨/ ٢٠٠٩


مسجد ومدرسة ألجاى اليوسفى

مع كل خطوة أتقدمها يسفر لى المسجد/ المدرسة، عن جزء منه، من هنا يقبل علىّ، وبعد خروجى منه واستمرارى فى الطريق يدبر عنى، لا يختفى فجأة، إنما يتوارى على مهل، حتى يسلمنى إلى مسجد آخر، هذا ما نلحظه فى الطريق، مئذنة تفضى إلى مئذنة، قبة تسلمنا إلى أخرى، على امتداد هذا الطريق وحتى بوابة الفتوح، ثم شارع الحسينية وانتهاء بميدان الجيش، لا يمكن للعين إلا أن تقع على مئذنة أو قبة أو مدخل أو لوحة خط أو جدار منمنم، وتلك حالة تختص بها القاهرة القديمة.

ها هى القبة تبدو بكاملها، تبهرنى فيها زخرفتها.. تلك الخطوط الملتوية التى تنطلق من قاعدتها لتتيح انحناءة القبة منتهية عند ذروتها، حركة قوية فيها جرأة وإبداع. شكل من الزخرفة غير مسبوق فى أى مكان من العالم، تكرر هذا فى قبة أصغر حجماً، قبة مدرسة ومسجد الأمير أيتمش البجاسى القريبة من باب الوزير، حركة صاعدة من أسفل القبة إلى أعلاها تبدأ من دائريتها وتلتقى الخطوط كلها عند ذروتها.

القبة رمز للكون، كما أنها إشارة إلى الأبدية، تعنى القبة أن تحتها مرقداً / ضريحاً، إما لولى حميم أو صاحب سلطة، وفرق كبير بين مراقد الصالحين ومآوى الحكام عند المصريين، وهذا ما سأتوقف عنده مطولاً، خاصة فى مسجد الرفاعى، ومسجد فجماس الإسحاقى الشهير بأبى حريبة.

يحلو لى التطلع إلى المئذنة الرشيقة، العلاقة بينها وبين القبة، ذلك التناسق الخفى الذى يبث نغماً فى الفضاء، لكم تأملت الصلة بين المستقيم الصاعد، الواحد، وبين الدائرى، الدائرة. هذه الصلة بلغت الذروة القصوى فى مسجد قايتباى بصحراء المماليك، تناغم لا مجال للاهتزاز فيه، المئذنة تشد القبة والعكس، تكامل الليل والنهار، الأصل بالظل، الذكر بالأنثى، فكأنه الكمال المنتج للاستمرارية والضرورى للبقاء.

أمامى تناسق آخر، مئذنة مصرية حميمة وقبة عليها إبداع فريد، لكن يخيل إلىّ أن المئذنة فيها استعلاء ما على القبة، وأحياناً يخيل إلىّ أن كلاً منهما بمفردها، بعكس مسجد قايتباى الذى لا يمكن أن أتخيل فيه القبة بمفردها بمعزل عن المئذنة.

أقترب من المسجد/ المدرسة، نوافذه تكشف لنا المداخل، الواجهة الرئيسية غربية تطل على الطريق، مثل العمارة المصرية المملوكية، قمة اكتمال الشخصية المصرية فى العمارة.. يقوم المبنى على التدرج.

لنتذكر: لا شىء يولد مكتملاً، لا شىء يجىء إلى الوجود تاماً، لابد من خطا يكتمل فيها وعبرها المخلوق، نباتاً كان أو حيواناً أو إنساناً، كذلك النهر الذى يبدأ فيضانه بنقطة، مجرد نقطة، هكذا العمارة المصرية الصميمة، فرعونية كانت أو قبطية أو إسلامية مملوكية، العصر المملوكى هو الذى شهد اكتمال الرؤية المصرية الإسلامية، العصر الفاطمى غلب عليه التصميم المغربى، هكذا الأزهر، والأنور (الحاكم بأمر الله) والأقمر، لا تدرج فى العمارة، كذلك الأيوبى. فى المملوكى استعاد المصرى رؤيته إلى الكون، وما من شىء عبر عنها مثل العمارة.

مدخل أُلْجاى اليوسفى لا يكشف الصحن الداخلى، كأنه مكتمل، العتبة تحيطها الأساطير، من يعانى أمراضاً مستعصية يمكنه أن يلحس العتبة فيبرأ، أما الجانب الأيسر من الباب فلحسه يؤدى إلى الشفاء من الإدمان. هذا ما أخبرنا به المقيمون إلى جوار المسجد.

أتوقف فى المدخل، بالطبع لا يمكن المقارنة بين مدخل السلطان حسن المهيب وبين هذا، غير أن الرؤية واحدة فى كليهما، الرؤية القائمة على التدرج، أتمهل هنا مستعيداً سيرة من أمر بتشييد هذاالمسجد المستكين أول الطريق الأعظم، وسط سوق السلاح.

أعود إلى العصر المملوكى، أتوقف عند الأمير أُلْجاى اليوسفى، أما دليلى ومرشدى فهو المقريزى فى موسوعته «المواعظ والاعتبار فى ذكر الخطط والآثار».

المنشئ

اسمه أُلْجاى (بضم الهمزة وتسكين اللام)

ابن عبدالله اليوسفى، لقبه سيف الدين، بدأ مملوكاً صغيراً، ثم راح فى الخدمة، ثم وقعت فتنة قُتل فيها الأمير يلبخا الخاصكى العمرى، فى شوال سنة ثمان وستين وسبعمائة، قبض على أُلْجاى مع عدد من الأمراء، قرر الأمير استدمر الناصرى القوى المتنفد إرسالهم إلى الإسكندرية التى كانت بمثابة منفى لأمراء المماليك وقتئذ، وكان يوجد بها سجن بشع مخصص لهم، سجنوا إلى عاشر صفر سنة تسع وستين، فأفرج الملك الأشرف شعبان عنهم، أمر بترقية ألْجاى إلى رتبة إمرة مائة، وجعله أمير سلاح، ثم قرره أمير سلاح أتابك العسكر وناظر المارستان المنصورى ـ مستشفى قلاوون ـ عوضاً عن الأمير «منكلى بُغا» هكذا تحول وضع الأمير ألْجاى من مسجون إلى مركز قوة، أصبح مهاباً جليلاً، هنا نتوقف أمام هذه السمة المملوكية التى لاتزال سارية حتى الآن فى مصر، إنها العنصر الشخصى فى السلطة، فالمهم قرب الشخص وليس مقدرته، وهذا القرب يمكن أن يتوقف على المزاج الشخصى، لذلك توقفت كثيراً أمام هذه العبارة التى تتردد فى حوليات التاريخ خاصة عند ابن إياس..

«وفيه تغير خاطر السلطان عليه..»

وفيه، أى فى يوم كذا، أما تغير خاطر السلطان فقد حدث هذا كثيراً بالنسبة لأمراء كبار كانوا من أركان الدولة، أفحش بعضهم فى الثراء، حتى إنهم جمعوا المال والتحف وكل ما هو نفيس، أحدهم جرى استعراض ثروته لمدة ثمانين يوماً فى المدينة بعد أن تقرر عرض موجوده ـ أى ممتلكاته ـ على الناس، إن تغير خاطر السلطان على شخص قد يجرى لأسباب تتعلق باكتشاف مؤامرة أو دلائل تشير إلى قلة الولاء، أو اقتناع السلطان بهمس آخرين، أصبحت المسافة بين أفواههم وأذن السلطان قصيرة، إن العلاقات بين الحواس الإنسانية لها دور مهم فى علاقات السلطة، فكلما كان فم إنسان ما أقرب إلى أذن المسؤول الأعلى ازدادت أهميته وقويت مكانته،

وفى لحظة معينة تتأثر حواس السلطان بحاسة السمع فيقع تغير الخاطر على الشخص الذى كان مقرباً جداً، وربما يحدث هذا التغير دون سبب، فقد كان بعض السلاطين متقلبى المزاج، قد يتغير خاطر أحدهم لمجرد أن شكل الأمير لم يعجبه، إن تغير خاطر الحاكم تعقبه إجراءات خطيرة، لنر تتابعها، أولها، الترسيم عليه (أى اعتقاله) وثانيها: الحوطة على موجوده (أى مصادرة أمواله وكل ما يمت إليه، بما فى ذلك حريمه من زوجات وجوار وعبيد) ثم الشك فى الزنجير: أى تقييده فى سلاسل، ثم إرساله إلى سجن الإسكندرية الرهيب ليلقى حتفه.

إن عبارة «تغير خاطر السلطان عليه» من العبارات الحاكمة، الدالة على طبيعة السلطة المملوكية حيث الشخصنة عنصر أساسى، نعود إلى مشيد المكان، الأمير ألْجاى، لقد كان سعيد الحظ، نجا من السجن وترقى فى مناصب الدولة، لم يصبح قريباً فقط من السلطان شعبان، إنما حظى بقرب نادر لم يتفق لمثله، لقد تزوج أم السلطان نفسه، الأم كانت شخصية قوية، ويبدو أنها كانت محبة لفنون الحياة، اسمها خوند بركة، والطريف أن أهالى الدرب الأحمر المقيمين بجوار مسجدها الجميل يتحدثون عنها بسلبية، أحدهم قال لى: «لا مؤاخذة يا أستاذ أصل مشيها كان وحش»

ولا أدرى مصدر هذا، ربما حكايات متوارثة من الزمن القديم، وليت أحد الباحثين يهتم بالتاريخ الشفهى غير المكتوب ويقارنه بالمدون، ولعل المثال الأوضح ما يتعلق بالملك الظاهر بيبرس الذى حوّله الشعب المصرى إلى بطل ملحمة أسطورية شفاهية مثل الهلالية، وقد أعدت طباعتها فى خمسة مجلدات صدرت عن الهيئة المصرية للكتاب، إنه السلطان المملوكى الوحيد الذى تحول إلى بطل أسطورى فى مخيلة الشعب، حالة نادرة جداً.

إذن.. مازالت الألسن تلوك سيرة أم السلطان شعبان التى تزوجت الأمير ألْجاى فعظم قدره واشتهر ذكره، وكما يقول المقريزى:

«فتحكّم فى الدولة تحكماً زائداً..».

ماتت خوند بركة أم السلطان، وعندئذ بدأ تمرد الأمير ألْجاى الذى أظهر العصيان، لبس آلة الحرب، واستنفر مماليكه، كان يريد الحصول على ميراث أم السلطان (زوجته)، رفض السلطان وقرر مواجهته، جرى قتال شديد بين الطرفين، انتهى بهرب الأمير ألْجاى إلى قليوب وأثناء المطاردة ألقى نفسه فى النيل راكباً فرسه وغرق، الغريب أن الفرس سبح ونجا أما ألْجاى فهلك، بعث السلطان الغطاسين للبحث عن جثمانه، وجدوه وحملوه فى تابوت إلى مدرسته هذه وغُسل وكُفن ودُفن بها، أم السلطان ترقد فى مدرستها القائمة حتى الآن على مقربة فى شارع الدرب الأحمر، وحديث المقريزى عنها عكس ما يتوارثه الناس، إذ يقول عنها إنها كانت «خيرة عفيفة، لها بر كثير ومعروف معروف، تحدث الناس بحجتها عدة سنين لما كان لها من الأفعال الجميلة فى تلك المشاهد الكريمة، وكان لها اعتقاد فى أهل الخير، ومحبة فى الصالحين، وقبرها موجود بقبة المدرسة، وأسف السلطان على فقدها، ووجد وجداً كثيراً لكثرة حبه لها».

داخل المدرسة

التفت إلى الطريق قبل انتقالى إلى الداخل، إلى الصحن، على الناحية الأخرى حارة الشماشرجى، وتلك وظيفة من العصر العثمانى، إنه ذلك الرجل الذى يجرى مفسحاً الطريق أمام الأمير الذى يركب خيلاً أو عربة، قرب الحارة كان يوجد حتى سنوات قريبة آخر ورشة لصناعة السلاح فى السوق، السلاح المقصود هو الخناجر والسيوف وما شابه.

أخطو إلى الداخل، شيئاً فشيئاً يتسرب المكان إلىّ ويبدأ اندماجى به، نتبادل المواقع، يصير المكان عندى وأصبح جزءاً منه، أما الحال الغالب، النابع من التصميم فهو التوازن، توازن مدهش، لم أعرف له مثيلاً.

الإيوان فى مواجهة الإيوان

النافذة تقابلها أخرى

الدائرة فى مواجهة الدائرة

هنا تبزغ سورة الرحمن، فكأن المعمارى الذى خطط استلهم ذلك التوازن الكونى من السورة التى أشعر داخلها وأثناء ترتيلها بنظام تسيير الكون من أصغر ذرة إلى أكبر فلك طبقاً لقانون خفى يحقق الانسجام والتوازن، لذلك أغمض عينى وأرتل السورة ترتيلاً فأرى سر البنيان كله، بما فى ذلك حركة القبة الغربية من خلال زخرفها الفريد.

الرحمن

عَلَّم القرآن

خلق الإنسان

عَلَّمه البيان

الشمس والقمر بحسبان

والنجم والشجر يسجدان

والسماء رفعها ووضع الميزان

ألا تطغوا فى الميزان

وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان

والأرض وضعها للأنام

فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام

والحب ذو العصف والريحان

فبأى آلاء ربكما تكذبان.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالجمعة أغسطس 28, 2009 4:55 am

انكسار الروح يوقف إبداع المصريين.. فالأزمنة تتوالى والظلم واحد.. كارثة المكان وليس عبقريته

كتب جمال الغيطانى ٢٧/ ٨/ ٢٠٠٩


سبيل رقية دودو


عودة إلى الطريق الأعظم، إلى الجزء الأول منه المعروف بسوق السلاح، أخرج من مسجد ومدرسة ألجاى اليوسفى مشبعاً بالرضا والسكينة والتوازن الرهيف بين ما أنا عليه وما كنته، أيضاً بين ما أنا عليه وما أتمنى أن أكونه، أحياناً يكون ذلك من بواعث القلقلة، لكننى إذ أفارق هذا البناء الجميل تدركنى سكينة مصدرها ما يختص به من توازن مدهش استدعانى إلى قراءة سورة الرحمن، أولى الظهر له وأمضى الخطى، أمر أمام مقهى قديم،

على نفس المقعد يجلس رجل متقدم فى العمر، وجهه ملىء بآثار الزمن، ظهره منحنٍ، يحدق دائماً إلى اللاشىء، كان يعمل فى المقهى نادلاً، بدأ منذ الصبا وعبر أيامه كلها هنا، اعتاد أن يفتحه فى ساعة مبكرة قبل طلوع الشمس، يرش الأرض بنشارة الخشب ليكنسها جيداً، يرص الأوانى والأكواب، كل شىء، لم يخرج من الحى إلا لزيارة آل البيت وأولياء الله الصالحين، تقدم به العمر وأقعده المرض، لم يعد قادراً على الحركة، النادل فى المقهى يتحرك طوال اليوم، يقطع عدة كيلو مترات خلال حيز ضيق، ابن صاحب المقهى أعفاه من العمل وكفله، أى خصص له راتباً تقاعدياً،

الرجل العجوز طلب أن يجىء يومياً، أن ينتحى ركناً على الرصيف المقابل للمقهى، أن يمضى وقته ناظراً إلى المكان الذى أمضى جل عمره فيه، أن يتأمل الزبائن، صحيح أن معظمهم من الأجيال الجديدة التى لا يعرف عنها شيئاً، لكن معظمهم من أبناء الحتة، ولدوا فيها وتأثروا بها، هذا الرجل بجلسته ونظرته أصبح بالنسبة لى معلماً إنسانياً، وفى بعض الأيام يغيب، أخشى أمراً، أجلس بالمقهى وأسأل عنه حذراً، ينبئنى من يعلم بمرضه، كان ذلك منذ سنوات قبل أن يغيب إلى الأبد.

كثيرة هى الوجوه التى تقابلنى فى الطريق، بعضها قديم مثل العمارة، هنا يتساند البشر على بعضهم البعض، السوق له منطقه، والتجاور له تقاليده، التفت إلى الوراء، مازال مسجد ألجاى اليوسفى فى دائرة البصر، المئذنة مطلة، سامقة، ثمة مسافة تكاد تكون متقاربة بين كل مسجد وآخر، المسافة بين ألجاى اليوسفى والطنبغا المردانى تكاد تعادل المسافة إلى مسجد قجماس الإسحاقى، ثم الصالح طلائع، يتخلل ذلك الأسبلة، وزوايا صغيرة للطيبين من شيوخ الصوفية والصالحين الذين أقام لهم الناس المراقد وأحاطوا سيرهم بالجهد والعناية.

مازال تأثير مسجد ومدرسة ألجاى اليوسفى يغمرنى، هنا يتردد سؤال عندى محوره ذلك التناقض بين روعة ورقة البنيان وقسوة وغشومة المنشئ، أتوقف عند جملة وصفه بها المقريزى: «وكان مهاباً جباراً، عسوفاً، عتياً..»

كيف لهذا الجبار العسوف العتى أن يرتبط اسمه بمسجد رائع الرقة كهذا؟، حيرنى ذلك طويلاً، ليس بالنسبة للأمير ألجاى فقط ولكن بالنسبة لجميع سلاطين وأمراء المماليك والولاة العثمانيين من بعدهم، إنه الإبداع الجماعى للمصريين عندما يجد الفرصة وعندما يستجيب لمتطلبات فترة معينة، الحاكم المقتدر يوفر الظروف مدفوعاً برغبة مصدرها مضمون مصر الروحى والثقافى، الرغبة فى تخليد الاسم،

عندئذ يسند التنفيذ إلى المصريين المبدعين من المتخصصين فى الزخرفة والخط والطلاء، والنمنمة ومن قبل ومن بعد المعماريين، البنائين، هكذا يظهر إلى الوجود إبداع الجماعة الذى يمثل فيه التراث القديم الوافد من عصور مختلفة، كل حقبة بما فيها، فى القرون الأولى بعد دخول العرب إلى مصر كانت مصر واهنة، ضعيفة، مستباحة منذ العصر الرومانى، غير أن مصر بلداً غير عادى، إنه قوى وهو يعانى الضعف، قوى بتراثه القديم، بتكوينه الفريد، إذا أصبح مقتدراً يؤثر بالإيجاب، وإذا ضعف يؤثر بالسلب، وبعد الغزوات والاستباحات يبدو منهكاً، تابعاً ولكن إلى حين، غير أن بلداً بتكوين مصر لا يمكن أن تستمر كولاية تابعة للأمويين أو العباسيين،

هكذا جرت أول محاولة للاستقلال بعد الغزو العربى فى ولاية أحمد بن طولون الذى استقل بمصر وأسس الدولة الطولونية ووضع أساس عاصمته الجديدة القطائع، كان تأسيس عاصمة جديدة يعنى الإعلان الفعلى للكيان الجديد المستقل، ولكن نلاحظ أن جميع الكيانات المنشأة فى هذا الوضع، سواء كانت حصن بابليون «بعد الغزو الرومانى» أو الفسطاط «بعد الغزو العربى» أو العسكر «الدولة العباسية» أو القطائع «الدولة الطولونية» ثم القاهرة «الدولة الفاطمية»، كل هذه العواصم ليست إلا ترديداً للعاصمة القديمة منف، عاصمة الدولة القديمة «بناة الأهرام»، إنه الموقع الذى أملته ضرورة قيام الدولة المركزية بعد توحيد القطرين، حيث يتفرع النيل إلى مسارين، دمياط ورشيد، موقع العاصمة هنا حاكم، مسيطر على الوجهين، إنه ذروة الهرم.

لم يتبق من القطائع إلا مسجد أحمد بن طولون، ورغم عظمة البنيان إلا أنه أجنبى التصميم، نابع من ذاكرة أحمد بن طولون وحنينه إلى سامراء، وقد رأيت مئذنة سامراء الملوية الشهيرة، إنها الأصل للمئذنة التى صممها المهندس المصرى القبطى الذى وضع تصميم المسجد كما تذكر المصادر التاريخية، فى تقديرى أن ابن طولون طلب تصميم المئذنة معبراً من خلالها عن حالة حنين إلى مسقط رأسه، وإن كانت مصادر التاريخ تذكر حكاية طريفة لشكلها، إذ يقال إنه كان شخصية قوية، صارمة، هذا طبيعى بالنسبة لرجل استقل بولاية تابعة للخليفة العباسى «تماماً مثل على بك الكبير فيما بعد ثم محمد على باشا الذى أسس الدولة المصرية الحديثة»، كان أحمد بن طولون فى مجلسه وسرح قليلاً ممسكاً بورقة بيضاء راح يلفها حول إصبعه، عندئذ صاح أحد الجالسين «ضبطتك تلعب وتلهو..»

مشيراً إلى الورقة الملفوفة، غير أن ابن طولون تدارك بسرعة قائلاً: «أنا لا ألعب ولا ألهو.. إننى أصمم المئذنة للمسجد..».

لا أصدق الحكاية، فالمئذنة تشير بوضوح إلى مئذنة سامراء الملوية، والتى يرجع أصلها إلى الزاقورة البابلية التى كانت جزءاً من المعبد البابلى، وتشير إلى السماء فى صعودها إلى أعلى.

عندما غزا جوهر الصقلى مصر قادماً من الغرب وضع أساس العاصمة الجديدة للفاطميين، وضع أساس القصر الشرقى مقر الحكم، والأزهر، المسجد الجامع الذى سيصبح مركزاً للدعوة الفاطمية لمدة قرنين من الزمان، ثم يتحول بعد ذلك إلى مركز للدعوة السنية مع سقوط الدولة الفاطمية وتأسيس الدولة الأيوبية، المساجد التى بنيت فى العصر الفاطمى لم تجسد الرؤية المصرية القائمة على التدرج، إنما كانت متأثرة بتصميم المساجد المغربية حيث الدخول مباشرة إلى الصحن، عندما زرت مسجد القرويين فى فاس تأملت طويلاً التشابه القوى بين معماره ومعمار الأزهر والحاكم والأقمر والصالح طلائع، ربما تختلف الزخارف نتيجة الميراث الخاص للمغرب ولمصر،

لكن التصميم يتشابه، إن تعدد الغزوات التى تعرضت لها مصر أدى إلى نقيضين، الأول عدم الاستقرار والانقطاع، وفرق كبير بين الانقطاع والموت، فى الانقطاع لا تتوقف الجماعة عن الوجود، وخلال هذا الوجود يمكن أن تتسرب بعض المؤثرات الأجنبية، أما الموت فهو التوقف التام، لم تمت مصر، إنما كانت تمرض، وأخطر ما يصيب أهلها انكسار الروح، وهذا يؤدى كما أؤكد دائمًا إلى وهن الإبداع الثقافى والفنى والعلمى فى شتى المجالات، هذا ما جرى زمن تمكن الأجنبى من مقادير البلاد، سواء كان فارسيًا أو رومانيًا أو عربيًا أو تركيًا عثمانيًا أو فرنسيًا أو إنجليزيًا، وأيضًا خلال تسيد الظلم والفساد من أهل البلاد الذين يمكن أن يكونوا سببًا فى انكسار الروح أكثر من الأجنبى الواضح الهوية، وهذا ما أجده خلال العقود الأخيرة التى قدر لنا أن نعيشها وأن نختتم بها أيامنا، أقصد جيلى عندما أتكلم بصيغة الجمع، فلأعد إلى البنيان، إلى العمارة.

أدت الغزوات الأجنبية إلى مؤثر آخر، وهو تعدد الطرز وتنوعها، إن تاريخ العمارة فى مصر هو تاريخ تحررها واستعمارها، كل أجنبى أودع فيها أثرًا، والدراسة المتأملة المتأنية تلك التى تستخلص المصرى الخالص، النابع من ثقافة الجماعة وتقاليدها، فى إستانبول وكل أنحاء تركيا لن نرى إلا طرازًا واحدًا من العمارة، نموذجه الأشهر عندنا مسجد محمد على، فى سمرقند لن نرى إلا طرازًا معينًا من العمارة، فى بغداد، فى إيران أيضًا، لكن فى القاهرة متحف مفتوح للطرز والتصاميم المختلفة وتعدد الأشكال، من ناحية يذكرنى هذا بكثرة الغزوات، بغلبة الأجنبى،

ومن ناحية يمكن القول إن هذا فيه ثراء، غير أننى أفضل الحالة المصرية الخالصة، وتلك لم تعبر عن نفسها إلا فى العصر المملوكى، وخلال ثورة ألف وتسعمائة وتسعة عشر وما تلا ثورة يوليو حتى نهاية الستينيات، إن تعدد الغزوات يجعلنى لا أقول بعبقرية المكان، إنما مصيبة المكان، أقول هذا رغم رصدى لحيوية وعبقرية الجماعة المصرية على الاستمرار رغم الانقطاع، وعلى الحفاظ على الروح الدفينة العميقة رغم تغير العقيدة واللسان، هذا ما شرحته مفصلاً فى كتاب «نزول النقطة»، فليتأمله من يرغب.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالجمعة أغسطس 28, 2009 4:56 am

العصر المملوكى

لماذا العصر المملوكى؟

هنا أنبه إلى أمرين، أولاً: إن البعض يخلط العصر المملوكى بشقيه البحرى والبرجى وبين المماليك خلال الاحتلال العثمانى البشع لمصر والذى انهارت فيه الدولة واستباح مصر جنود الانكشارية والدلائية، وتسبب احتلال وغزو سليم الأول العثمانى فى إبادة ستة ملايين مصرى خلال قرنين من الزمان، فى عام ألف وخمسمائة وسبعة عشر عندما غزا سليم الأول مصر، كان تعداد السكان حوالى ثمانية ملايين، بعد أقل من قرنين، جاء نابليون بونابرت إلى مصر، وكان عدد سكانها مليونين ونصف المليون، حتى القرن السادس عشر، كانت الدولة المملوكية تبسط سلطانها على الشام كله حتى حدود جبال طوروس، وعلى البحرين الأبيض والأحمر، وعلى الحرمين، مكة والمدينة،

وأيضاً بيت المقدس، نزولاً شرقاً إلى باب المندب والمحيط الهندى، وجنوباً إلى شمال السودان. كانت القاهرة مركزاً لإمبراطورية شاسعة، والمثير للتأمل أن حكام هذه الإمبراطورية كانوا عبيداً فى الأصل، كلهم جاءوا أطفالاً مخطوفين مع تجار الرقيق الذين كان لهم سوق أمام قبة قلاوون معروف بدكة العبيد، وكان التجار ينادون على الذكور والإناث كما ينادى الباعة على البضاعة، أى بضاعة، يصيح النخاس مشيراً إلى الجارية الشابة:

«يا سيد، ليس كل ما استطال موزة ولا كل ما استدار جوزة..» ثم يبدأ فى تعديد فضائل الجارية المعروضة للبيع. قامت الدولة على أكتاف هؤلاء الرقيق الذين تزايدت أعدادهم مع احتضار الدولة الفاطمية، ثم انفرادهم بالحكم فى نهاية الدولة الأيوبية وتأسيس دولة المماليك البحرية، وكان مركز الحكم فيها جزيرة الروضة، لذلك أطلق عليهم (البحرية).

وتعاقب خلالها أبناء وأحفاد المنصور قلاوون، حتى اعتلى الظاهر برقوق السلطة فى بداية القرن الخامس عشر مؤسساً دولة المماليك البرجية والتى أصبح فيها مركز الحكم فى قلعة الجبل، واستمر حتى منتصف القرن التاسع عشر، عندما نزل الخديو إسماعيل عام ثلاثة وستين وثمانمائة وألف إلى وسط الناس فى قصر عابدين.

خلال الدولة المملوكية المستقلة أبدعت الجماعة المصرية أروع ما فى مكنونها، فى العمارة، فى الأدب، فى الموسيقى، لقد تحققت الخصوصية المصرية رغم أن حكام البلاد كانوا رقيقاً وافدين، لكن يجب ملاحظة أن هؤلاء وفدوا على مصر أطفالاً صغاراً، تربوا فيها وتعلموا على أيدى علمائها وشيوخها، أى أن تكوينهم كان مصرياً، وخلال الحقبة التى حكموا فيها صدوا خطرين عظيمين، الأول عندما هزموا التتار فى موقعة «عين جالوت»، والثانية تخليصهم العالم العربى والإسلامى من الخطر الصليبى وهو استعمار استيطانى كان مستقره فلسطين والشام، فكأن الزمن يعيد دورته فى نفس المنطقة، منذ سنوات عقدت إسرائيل ندوة كبيرة فى القدس لدراسة أسباب زوال الدولة الصليبية وفشل حملاتها، هل فكر أحد من المسؤولين فى العالم العربى أن يقيم ندوة فى المقابل تبحث فى أسباب زوال الحملات الصليبية ومقارنتها بالظروف الحالية!

استطاع المماليك الذين كانوا محاربين شجعاناً أن يهزموا التتار والصليبيين، وخلال دولتهم عرفت مصر استقراراً اقتصادياً وطمأنينة مكنت جماعتها الوطنية من الإبداع، لم يكن حكم المماليك ظالماً فى مجمله، فاسداً فى كليته، لم يكن أكثر مما عرفناه تحت حكم المصريين الخُلص، بل إن المماليك تميزوا بالشجاعة، ولم يهرب أحدهم إلى بلد آخر مصطحباً ثروته، ولم يغرق أحدهم أكثر من ألف إنسان ويظل بمنأى، يبدو أن قدر المصريين، هو معاناة القهر، ويبدو أن عذاب المصريين، ومعاناتهم، أزلى، سواء كان الحاكم أجنبياً أو من بنى جلدتهم.

ذاب المماليك فى المجتمع المصرى، تلك خاصية الاحتواء، هل يمكن لأحدنا أن يحدد من هو حفيد أسرة قلاوون الآن، أو حفيد الأمير أزبك، أو الأمير طاز، أو الأمير شيخون، كلهم ذابوا فى المجتمع المصرى. هذا الذوبان كان يبدأ على الفور بعد خروج المملوك من الخدمة، أى بعد تقاعده من خدمة الدولة، عندئذ يصبح واحداً من فئة كان يطلق عليها أولاد الناس، ومعظم هؤلاء يتركون الجندية والسلاح ويشتغلون بالعلم أو التجارة، ومنهم على سبيل المثال المؤرخ العظيم شيخى محمد أحمد بن إياس صاحب بدائع الزهور فى وقائع الدهور، وما زال المصريون إذا أرادوا أن يمدحوا شخصاً ما بجميل الصفات، فإنهم يصفونه بابن ناس.

أمضى فى الطريق مبتعداً عن مسجد ومدرسة ألجاى اليوسفى إلى أن يلوح سبيل رقية دودو، أو سبيل البدوية، أحد أجمل أسبلة العالم الإسلامى، يبدو جزء منه للقادم من شارع سوق السلاح، كأنه نهاية الطريق، إنها خاصية الشارع فى المدينة العتيقة حيث لا يمضى مستقيماً مثل الشارع الأوروبى إنما يتعرج، بحيث يبدو كل قسم منه وكأنه بداية ونهاية، يحقق هذا راحة نفسية للإنسان، إذ يقسم المسافة، وفى نفس الوقت يظل الوعد بالوصول قائماً، ماثلاً، بينما يؤدى هذا التعرج إلى تبادل الظل، الظل يعانق الظل فى أيام الحر، وفى أيام البرد تنكسر حدة الرياح عند تلك المنحنيات.

سبيل رقية دودو..

أمر أمامه وأتوقف متأملاً لسنوات طويلة، حفظت زخارفه، سواء المحفورة فى الحجر أو فى بلاطات الخزف، ما من فنان إلا وتوقف أمامه ورسمه، ظل الوضع كذلك منذ إنشائه فى القرن الثامن عشر إلى بداية هذا العام عندما تمكن اللصوص المحترفون، المدعومون من انتزاع غطاء الواجهة الذى كان من الحديد المزخرف، المنمنم، عمل يتسم بالجرأة الوقحة لا يقدم عليه إلا من لديه قدر من الاطمئنان، ولا أقدر على تحديد مصدر هذا الاطمئنان، الآن يدمى قلبى وأنا أرى طوباً أحمر يسد الفجوة التى كانت تعتبر من أجمل واجهات الأسبلة، لقد أبلغت النائب العام وتفضل مشكوراً بإجراء تحقيق استغرق شهوراً، ولكن لم يتم التوصل إلى نتيجة حتى الآن،

لم تمتد أيدى اللصوص المحترفين إلى السبيل النادر فقط، إنما إلى آثار أخرى سأتوقف عندها، هذا التطاول على الآثار الإسلامية لم يحدث فى أحط عصور تاريخنا وأكثرها اضطراباً، ما جرى لسبيل رقية دودو، يجعلنى أتوقف لأستعيد ما دونته من قبل عن أسبلة القاهرة، معمارها ودلالاتها، مغزاها ومعناها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالجمعة أغسطس 28, 2009 4:58 am

تجليات مصرية .. أسبلة الرحمة «١-٢»

كتب جمال الغيطانى ٢٨/ ٨/ ٢٠٠٩


جميع النصوص المقدسة تضعه فى المركز، بدءًا من الكتاب المقدس لمصر القديمة «الخروج إلى النهار»، المعروف خطأ بـ«كتاب الموتى»، التسمية التى أطلقها عليه علماء المصريات الإنجليز والتى أضرت بالمضمون، إذ إن الكتاب لا يكرّس الموت كنهاية، ولكنه دليل للمتوفى فى العالم الآخر، حتى يصبح مبرأً من الخطايا عبر خطوات عديدة، منها المثول أمام المحكمة الأوزيرية، حيث وزن القلب فى الميزان مقابل ريشة ماعت، التى تعنى العدل والنقاء، فإذا ثقل الميزان يلقى بالقلب إلى حيوان أسطورى يقف متأهبًا، وهكذا يجد الميت طريقه إلى الجحيم، أما إذا خفت موازينه وتعادلت الكفتان فإنه يصبح مبرأً من الذنوب فيمضى عندئذ إلى حقول يارو، أى الجنة طبقًا للمفهوم المصرى القديم، حيث السعادة الأبدية..

على جدران الفنان سنجم رع فى مقابر دير المدينة تصور لهذه الحقول، حيث الماء عنصر أساسى والزرع، بين الخطوات التى يمر بها المتوفى الإقرار بأنه لم يرتكب الذنوب الجسيمة، وأولها تلويث مياه النيل، كان لابد أن ينطق قائلاً:

«أنا لم ألوث ماء النيل..»

للماء القداسة فى الأديان الثلاثة، وفى الحضارة الإسلامية كان ومازال توفير الماء للناس سواء كانوا مقيمين أو عابرين من أجلّ الأعمال وأكثرها تقربًا إلى الله سبحانه وتعالى، جاء فى التنزيل العزيز:

«وجعلنا من الماء كل شىء حى..»

نلاحظ أن موضع الماء فى جميع المساجد يقع فى منتصف الصحن، أى فى المركز، ولابد أن يرتبط بالجمال، بل بأقصى آيات الجمال والدقة عبر الزخارف المنمنمة، أما آية الكرسى فنقرؤها دائمًا على القباب التى تظلل أماكن الماء.

عندما وضع القائد «جوهر» أساس القاهرة، وبعد وصول الخليفة المعز لدين الله، وأثناء تفقده موقع العاصمة الجديدة أبدى ملاحظة مضمونها أنها بعيدة عن النهر، عن الماء، كانت ملاحظة صحيحة ولكن يبدو أن «جوهر» وضع فى اعتباره الأسباب الأمنية أولاً، هكذا جاء بناء القاهرة بعيدًا عن النيل، عكس العواصم القديمة، بدءًا من منف، وحصن بابليون، ثم الفسطاط.. كان النيل يجرى أمام الكنيسة المعلقة وجامع عمرو مباشرة، مع الزمن تحرك غربًا، وحتى زمن المقريزى، أى فى القرن الخامس عشر الميلادى، كان المجرى مكان شارع عمادالدين وباب الحديد الآن.

بناء العاصمة بعيدًا عن النهر اقتضى ضرورة وضع نظام دقيق، محكم لتموينها بالمياه، وفى العصر المملوكى قُدر عدد الدواب المخصصة لنقل المياه بثلاثة آلاف، ما بين حمار وبغل..كانت مراكز التوزيع تتمثل فى الأسبلة، وكلمة سبيل من اللفظ العربى، «وسبل الماء» أى أجراه ويسّره للناس، ويُعد ذلك من أرفع درجات الخير، وكثيرًا ما كان إقدام بعض الميسورين على بناء أسبلة أو وسائل لتأمين تقديم الماء إلى الناس من أجلّ الأعمال التى يقدمون عليها، ورغم تأمين شبكة مياه للمدينة فى العصور الحديثة إلا أن الناس فى القاهرة القديمة يحرصون على وضع القلل الفخارية ممتلئة فى الطريق للمارة، وخلال السنوات الأخيرة لاحظت وجود مبردات كهربائية أمام بعض البيوت أو عند نواصى الحوارى، وفى معظم هذه الأحوال يكون تيسير الماء للناس من أجل راحة روح متوفى عزيز.

أسبلة القاهرة من معمار ذاكرتى، كنت أمر بها منذ طفولتى فيلفت نظرى جمال نقوشها وفرادة تكوينها، خاصة سبيل بين القصرين، تركى الطراز المواجه لمسجد سيدنا ومولانا الحسين، كنت أمر أمامه يوميًا طوال صباى وشبابى، كذلك الأسبلة الأخرى فى القاهرة العتيقة، كلها فقدت وظيفتها بعد مد شبكة المياه فى بداية القرن العشرين بواسطة شركة إيطالية (الكوبانية)، عندما جاء نابليون بونابرت إلى مصر كان تعدادها ثلاثة آلاف سبيل فى القاهرة، كما أحصاها الفرنسيون فى «وصف مصر».

الآن، وطبقًا للآثار المسجلة يبلغ عددها ستين، جفت كلها وأصبحت مبانى لا وظيفة لها، أذكر سبيلاً وحيدًا كان يفيض بالمياه حتى نهاية الخمسينيات، كان سبيلاً للحيوانات، تتوقف عنده الحمير والبغال والخيول والكلاب والقطط، والأخيرة كانت لها أوعية خاصة إلى جوار السبيل الذى كان على هيئة حوض مجرى مستطيل، أمام قسم الجمالية، وأيضًا أمام البيت الذى وُلد فيه نجيب محفوظ.. إ

نه السبيل الوحيد الذى رأيته يؤدى وظيفته الأساسية، والوحيد المخصص للحيوانات.. حرص المشرّع الإسلامى على تحقيق مبدأ الرحمة ليس فقط بالنسبة للإنسان إنما لكل مخلوق حى يدب على الأرض أو يطير فى الهواء، لذلك لو اطلعنا على حجج الأوقاف سنرى ما يثير الدهشة، حيث خصصت أوقاف للطيور الهائمة والمهاجرة التى تحط على اسقف المبانى والخرابات المهجورة، كذلك الحيوانات الضالة.

لأن الماء مقدس، لأنه أصل الحياة، لذلك اقترن بالقرآن الكريم، ولهذا شرح وتفصيل يتعلق بتركيب السبيل الذى يتكون من ثلاثة أجزاء، الأول صهريج يقع تحت مستوى الأرض لحفظ الماء وله شروط صحية صارمة، المستوى الثانى فوق سطح الأرض وعبره يتم تقديم الماء إلى السقائين الذين ينقلونه إلى البيوت أو المارة، ونلاحظ التنافس فى زخرفة الواجهات وكتابة بعض آيات القرآن الكريم بخط جميل، أو الأقوال السائرة وأبيات الشعر، أما الطابق الثالث فيضم مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم، أى كُتاب، بعض الأسبلة استمرت من خلال هذا الجزء بعد توقف تقديم الماء..

آخر سبيل عرفته وكان عامرًا بالأطفال الذين يتلقون دروس العربية ويحفظون القرآن الكريم، سبيل أوده باشا، الذى يقع على ناصية حارة الميضأة بشارع الجمالية، كان عامرًا بالنشاط حتى بداية الثمانينيات، ويرجع الفضل فى ذلك إلى عدلى باعيسى الذى كان يعمل مدرسًا للغة العربية، إلا أنه أوقف حياته على خدمة أبناء المنطقة من خلال جمعية «فقراء الجمالية»، التى كان يقوم من خلالها بعمل خيرى كثيف، كان يرتدى الجلباب الأبيض الناصع بعد الظهر، لا أذكره إلا مبتسمًا، مضىء الملامح، لم يتزوج ولم ينجب، لكنه كان أبًا للجميع، ولا أبالغ إذا قلت إنه أمضى حياته بين حارة الميضأة ومسجد مولانا وسيدنا الحسين، كنت إذ ألمح الباب مفتوحًا أدخل وأصعد إلى الطابق الثانى حيث مكتبه، وكان صوت الأطفال الجماعى يردد وراء المدرس المتطوع:

قرأ

قرأ

معظمهم أطفال لم يبلغوا بعد السن القانونية للالتحاق بالمدارس الابتدائية، أرسلهم أولياء أمورهم لقضاء الوقت فيما يعود بالفائدة عليهم بدلاً من اللعب فى الحوارى والطرقات، كان مكتب عدلى باعيسى يعكس هدوءه النفسى وسلامه مع الدنيا، مرتب، نظيف، وكان الضوء يسرى على مهل من الخارج، وظلال الأزمنة المولية تدثرنا، أما ما يُثير كوامنى وشجنى حتى ليجعله يفوق على الشجون فرؤية لوحة خط عتيقة معلقة إلى الجدار، كُتب عليها:

«كشف الدُجى بجماله..»

كان الخط يبث نغماً خفياً يرقرق حالى، ويهدهد قلبى، لم أعرف هذه العبارة إلا فى لوحة أخرى أكبر وأغزر زخرفة، رأيتها خلال زياراتى الثلاث إلى مسجد السلطان أحمد فى إسطنبول، المعروف بـ«المسجد الأزرق» لغلبة اللون الأزرق على زخارفه الداخلية، والتى أكاد أرى فيها أنفاس أبناء الفنانين المصريين الذين أسرهم سليم الأول ونقلهم بعد غزوه مصر فى القرن السادس عشر، هذا الغزو الإجرامى الذى أعتبره بداية النهاية للإمبراطورية العثمانية، فقد كان توسعها باتجاه الغرب،

ومن هنا كان يكتسب الضرورة الأخلاقية والفكرية، من خلال الدور النشط الذى تم دفاعاً عن العالم الإسلامى، ولكن عندما استدار سليم الأول ليغزو بلداً مسلماً تحول إلى غاز يستهدف الضم والاحتلال، وكل ما يصاحب ذلك من سلب ونهب، ولذلك ذهلت عندما قرأت للزميلة فريدة الشوباشى مقالاً فى «المصرى اليوم» يشير إلى وجود كتب مقررة على طلبة المرحلة الابتدائية تشير إلى ما تعتبره «الفتح العثمانى»، يوجد هذا فى المناهج التى تم استيرادها من الخارج.. إنها لكارثة، ولكن هذا مما يطول الحديث فيه، ومما يُفسد أيضاً استعادتى لتلك اللوحة البديعة التى لا أدرى مصيرها الآن.

«كشف الدُجى بجماله..»

المقصود طبعاً هو المصطفى عليه الصلاة والسلام، أعود إلى الأسبلة بعد أن طال بى الوقوف أمام واجهة سبيل رقية دودو التى سُرقت نافذتها المزخرفة المصنوعة من الحديد، وسد مكانها بالطوب الأحمر.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالجمعة أغسطس 28, 2009 4:59 am

سبيل رقية دودو واحد من شبكة واسعة انتظمت فى المدينة لإمدادها بالمياه من النيل، اقتضى ذلك وجود تنظيم قوى لأداء هذه المهمة الحيوية وتكفلت طائفة السقائين بذلك، ومنذ الأزمنة القديمة كانت هذه الطائفة تخضع لإشراف وتنظيم دقيقين، وعندما كان أحد الراغبين فى العمل كسقاء يتقدم إلى شيخ الطائفة، كان لابد من قيامه بأداء اختبارات معينة، منها حمله لقربة أو كيس ملىء بالرمل لا يقل وزنه عن سبعة وستين رطلاً، ولمدة ثلاثة أيام وثلاث ليال متصلة لا يسمح له بالنوم أو الاستراحة، ثم يتم التحرى عن أخلاقه وسلوكه، السقا يدخل البيوت فى غيبة أربابها لتزويدها بالمياه،

وكان المحتسب يولى هذه المهنة اهتماماً خاصاً لتأثيرها المباشر على الصحة العامة، وكان يتعين على السقائين نزول النهر بعيداً عن الأماكن الملوثة أو القريبة من المراحيض أو الحمامات أو مساقى الحيوانات، وكان ممنوعاً عليهم خلط مياه النهر بمياه الآبار، وأن يلتزموا بالحفاظ على قربهم وأدواتهم وملابسهم، وألا يستخدموا القرب الجديدة لنقل مياه الشرب لأنها تجعل طعم المياه غير مستحب، وأن يغطوا القرب بسعف النخيل حتى لا يضايقوا المارة بالطين العالق بها، وأن يعلقوا أجراساً صغيرة فى رقاب حيواناتهم لينبهوا المارة إلى مرورهم،

أما ملابسهم نفسها فاشترط أن تكون زرقاء قصيرة بحيث لا تخدش الحياء العام، مازلت أذكر رائحة القربة الجلدية التى كان يحملها السقاء الذى كان يدخل بيت خالى فى جهينة ليملأ الزير بالمياه، كان ذلك حتى منتصف الستينيات من القرن الماضى قبل مد شبكات المياه إلى القرى والنجوع فى الصعيد.. كان السقاء قوى البنية، يضع فوق ظهره قطعة مستطيلة من الجلد ليحمل القربة فوقها فلا تحتك بجسده مباشرة، لا أذكره إلا منحنياً، منحنياً عند سيره بثقل القربة، يزداد انحناؤه عندما يفرغها، اللون الغالب عليه البنى، ما اسمه؟ ما مصيره بعد مد أنابيب المياه؟ لا أدرى.

فى القاهرة القديمة كان السقاءون يتوزعون على أربع طوائف، أولاها، حاملو المياه على ظهور الحمير، ومقرهم المداخل الغربية للمدينة ناحية باب البحر وباب الشعرية، ثم طائفة أخرى لحى باب اللوق، وطائفة ثالثة فى حارة السقايين، أما الرابعة فمقرها قناطر السباع. وكانت توجد طائفة أخرى لحاملى المياه على ظهور الجمال، كانت هذه النقاط الرئيسية تحيط بالمدينة، ومنها ينطلق سقاءو القطاعى، كانوا بعد صب القرب يقومون بتسجيل خطوط على لوح معلق إلى الباب بعدد القرب التى أحضروها، أو يستخدمون عقوداً من الخرز الأزرق يسحب منها خرزة عن كل قربة يحضرها، وعندما تنتهى حبات الخرز يسوّى حسابه.

هذا عن البيوت المستورة، فماذا كان يفعل غير القادرين للحصول على المياه؟



هنا يأتى دور الأسبلة التى بُنيت فى الأصل كعمل من أعمال الخير، منها كان الفقراء والغرباء يحصلون على حاجتهم من الماء.. تقديم الماء للناس من أجلّ أعمال الخير، ومازلنا نرى مساقى للمياه على الطرق الزراعية، أو قللاً مصفوفة أمام المساجد، من إناء فخارى صغير إلى سبيل يعد تحفة معمارية، الجوهر واحد، وهو التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بعمل يفيد الناس، لقد استغرق الأمر وقتاً حتى يصل السبيل إلى الشكل وإلى التكوين الذى وصلنا به، وفى تقديرى أن هذا لم يكتمل إلا فى العصر المملوكى.

آبار وعيون

لا تشير المصادر التاريخية المتاحة لنا حتى الآن إلى وجود الأسبلة قبل العصر المملوكى إنما يحدثنا المقريزى فى خططه عن آبار وصهاريج للمياه أيضاً كعمل من أعمال الخير، من أقدم الآبار التى يرد ذكرها فى الخطط «بئر الوطاويط»، أنشأها الوزير أبوالفضل جعفر بن الفضل بن جعفر بن الفرات، المعروف بابن خترابة، لينقل منها الماء إلى السبع سقايات التى أنشأها وأوقفها لجميع المسلمين، والوثيقة المتعلقة بهذه البئر تعتبر أقدم وثيقة وردت فى كل المصادر والآثار تتصل بتقديم المياه، ويرجع تاريخها إلى سنة ٣٥٥هـ، يقول النص:

«بسم الله الرحمن الرحيم

فلله الأمر من قبل وبعد وله الشكر وله الحمد ومنه المن على عبده جعفر بن الفضل بن جعفر بن الفرات وما وفقه له من البناء لهذه البئر وجريانها إلى السبع سقايات التى أنشأها وحبسها لجميع المسلمين وحبسه وسبله وقفاً مؤبداً لا يحل تغييره ولا العدول بشىء من مائه ولا ينقل ولا يبطل ولا يساق إلا إلى حيث مجراه إلى السقايات المسبلة فمن بدّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدّلونه إن الله سميع عليم وذلك فى سنة خمس وخمسين وثلاثمائة وصلى الله على نبيه محمد وآله وسلم».
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالجمعة أغسطس 28, 2009 4:59 am

ومع الزمن خربت السقايات، وأهملت البئر وسكنتها الوطاويط، وعرفت البئر بهذا الاسم، ثم عمر المكان وسكنه الناس، وفى زمن المقريزى كان يعرف بخط بئر الوطاويط، ومكانه الآن يقع بالقرب من باب زويلة.

وفى الخطط أيضاً يقص المقريزى واقعة جرت فى عصر أحمد بن طولون، ينقلها عن المؤرخ السابق له القضاعى، إذ حدث فى أحد الأيام أن ركب أحمد بن طولون، ومر بمسجد يقع خارج القاهرة اسمه مسجد الإقدام كان قريباً من القرافة الكبرى،. وتقدم عسكره وقد كده العطش، وكان فى المسجد خياط مقيم، فقال: يا خياط.. أعندك ماء؟، فقال: نعم، وأخرج له كوزاً فيه ماء، وقال: اشرب ولا تمدّ، يعنى لا تشرب كثيراً، فتبسم أحمد بن طولون وشرب ومدّ حتى شرب أكثره، ثم ناوله الكوز، وقال: يا فتى، سقيتنا وقلت لا تمد.

فقال: نعم أعزك الله، موضعنا هنا منقطع وإنما أخيط جمعتى حتى أجمع ثمن راوية (ثمن الماء) فقال ابن طولون: وهل الماء عندكم هنا معوز؟ فقال الخياط: نعم، فلما عاد أحمد بن طولون إلى قصره أرسل فى طلب الخياط، فأتوا به إليه، فلما رآه، قال: سر مع المهندسين حتى يخطوا عندك موضع سقاية ويجروا الماء وهذه ألف دينار خذها وابدأ الإنفاق، وبشرنى ساعة يجرى الماء، وبدأ العمل على الفور،

وعندما جرى الماء جاءه الخياط مبشراً فخلع عليه وحمّله واشترى له داراً يسكنها وأجرى عليه الرزق، وحتى عصر المقريزى كانت هذه المنشأة تعرف باسم قناطر ابن طولون، وبعد أن فرغ أحمد بن طولون من بناء هذه السقاية بلغه أن قوماً لا يستحلون شرب مائها، قال الفقيه محمد بن عبدالله بن عبدالحكم: كنت ليلة فى دارى، إذ طرقت بخادم من خدّام أحمد بن طولون، فقال لى: الأمير يدعوك، فركبت مذعوراً، مرعوباً فعدل بى عن الطريق، فقلت: أين تذهب بى؟ فقال: إلى الصحراء والأمير فيها، فأيقنت بالهلاك، وقلت للخادم: الله، الله فىّ، فإنى شيخ كبير ضعيف من فتدرى ما يراد منى فارحمنى، فقال لى: احذر أن يكون لك فى السقاية قول، سرت معه وإذا بالمشاعل فى الصحراء وأحمد بن طولون راكب على باب السقاية وبين يديه الشمع،

فنزلت وسلمت عليه فلم يرد علىّ، فقلت: أيها الأمير إن الرسول أعنتنى وكدّنى وقد عطشت، فيأذن لى الأمير فى الشرب فأراد الغلمان أن يسقونى فقلت: أنا آخذ لنفسى فاستقيت وهو يرانى وشربت وازددت فى الشرب، حتى كدت أنشق ثم قلت: أيها الأمير سقاك الله من أنهار الجنة فلقد أرويت وأغنيت، ولا أدرى ما أصف طيب الماء فى حلاوته وبرده، أم صفاءه أم طيب رائحة السقاية، فنظر إلىّ وقال: أريدك لأمر وليس هذا وقته فاصرفوه، فصرفت، فقال لى الخادم: أصبت، فقلت: أحسن الله جزاءك فلولاك لهلكت.

وعندما مات ابن طولون أنشد عمرو بن الكندى أبياتاً يرثيه فيها ويرثى دولته، خصص بعضها لهذه البئر:

وعين معين الشرب عين زكية

وعين أجاج للرواة وللطهر

كأن وفود النيل فى جنباتها

تروح وتغدو بين مد إلى جزر

فأرك بها مستنبطاً لمعينها

من الأرض من بطن عميق إلى ظهر

بناء لو أن الجن جاءت بمثله

لقيل لقد جاءت بمستفظع نكر

يمر على أرض المغافر كلها

وشعبان والأحمور والحى من بشر

قبائل لا نوء السحاب يمدها

ولا النيل يرويها ولا جدول يجرى
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالجمعة أغسطس 28, 2009 5:00 am

كذلك يذكر المقريزى عدداً من الآبار والأحواض أنشئت قبل العصر المملوكى، منها حوض القرافة الذى أنشأته السيدة ست الملك، عمة الخليفة الفاطمى الحاكم بأمر الله، وحوض آخر بجوار قصر القرافة، بنته أم الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله، وحوض بداخل قصر أبى المعلوم بناه المحتسب، وحوض آخر بناه الحاجب لؤلؤ، ومن الآبار بئر أبى سلامة أو بئر الغنم كما كانت تعرف، وبئر الدرج التى أمر بحفرها الحاكم بأمر الله.

وعندما جدد الحاكم بأمر الله الأزهر، وأوقف عليه، كان من بين المصروفات المخصصة:

«دينار واحد وربع دينار ومن ذلك الثمن أزيار فخار تنصب على المصنع، ويصب فيها الماء مع أجرة حملها ثلاثة دنانير».

أما مسجد الحاكم نفسه، فقد حفر فيه صهريج بصحن الجامع ليملأ فى كل سنة من ماء النيل، ويُسبل منه الماء فى كل يوم، ويستقى منه الناس يوم الجمعة، ويذكر المقريزى أنه من بين التطورات التى حدثت فى الجامع العتيق، جامع عمرو بن العاص.

«ولما كان فى شهور سنة ست وتسعين وستمائة، اشترى الصاحب تاج الدين دارا بسوق الأكفانيين وهدمها وجعل منها سقاية كبيرة ورفعها إلى محاذاة سطح الجامع وجعل لها ممشى يتوصل إليه من سطح الجامع، وعمل فى أعلاها أربعة بيوت يرتفق بهم فى الخلاء ومكاناً برسم أزيار الماء العذب وهدم سقاية الغرفة التى تحت المئذنة المعروفة بالمنظرة».

لا يحدثنا المقريزى إذن عن الأسبلة كما نعرفها من خلال الشكل الذى وصلت به إلينا قبل العصر المملوكى، إنما كان الماء يقدم إما من خلال آبار، أو سقايات، أو يخزن فى صهاريج كبيرة، وقد استمر بناء الصهاريج فى المساجد والخانقاوات، وكانت هى الأساس الذى قامت عليه الأسبلة فيما بعد، وكان بعض الصهاريج يقام على أعمدة حاملة لقباب ضحلة، ولها سلم حجرى ملتف كما يوجد فى خانقاه الأشراف بارسباى بالجبانة، والبعض الآخر كان له سقف مسطح يرتكز على أكتاف جانبية ويتميز بالاستطالة وله سلم حجرى جانبى، أما أرضية الصهريج نفسه فكانت ملساء خالية من أى نتوء، على أى حال أصبح الصهريج فيما بعد هو أول جزء فى أى سبيل أقيم فى القاهرة، وقد أوقف المنشئون أموالاً كثيرة على إنشاء الصهاريج، تذكر وثيقة وقف الأشراف برسباى ما نصه:

«ويُصرف فى كل شهر من الشهور من الفلوس المذكورة سبعمائة درهم وخمسون درهما، وفى كل سنة من الفلوس المذكورة ثلاثة آلاف وخمسمائة درهم، أو ما يقوم مقام ذلك من النقود، ويصرف ذلك فى ثمن ماء عذب ينقل إلى الصهريج المذكور، فى كل سنة من ماء النيل المبارك عند جريانه فى الخلجانة ما فيه الكفاية إلى السنة».

الرحمة

تصميم المدينة الإسلامية العربية يتضمن عناصر عديدة تدور حول الرحمة، إنها الهدف من المبانى التى أقيمت لتراعى ظروف البيئة وانعكاساتها على الإنسان، فى الطرقات التى لا يمضى واحد منها فى خط مستقيم حاد كالشوارع الحديثة تخفيفاً للإحساس بطول المسافة عند السائر، والسقوف التى تظلل الأسواق، أما أبرز عناصر الرحمة فهى الأسبلة.. فى القرن الخامس عشر علق أحد الرحالة الأوروبيين بعد أن رأى هذا العدد من الأسبلة فى القاهرة، قال:

«إن ما نراه من الأسبلة الكثيرة فى أى مدينة إسلامية دليل على سمو خلق أهل هذه المدينة».
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالأحد أغسطس 30, 2009 5:05 am


للماء وقت.. وللحياة أيضاً صراع المعمار فى واجهات الأسبلة العثمانية

بقلم جمال الغيطانى ٢٩/ ٨/ ٢٠٠٩


يعتبر سبيل الناصر محمد بن قلاوون «أثر رقم ٥٦١» والموجود بشارع بين القصرين أقدم هذه الأسبلة، يرجع تاريخ إنشائه إلى عام ٧٢٦ هجرية - ١٣٢٦م، إنه أقدم سبيل بالقاهرة، خمسة أسبلة أخرى تنتمى إلى العصر المملوكى: سبيل الأمير شيخون بالصليبة «٧٥٥هـ- ١٣٥٤م ـ أثر رقم ١٤٤»، سبيل الوفائية بالخليفة «٨٤٦هـ - ١٤٤٢م- أثر رقم ٥٥٧»، سبيل مسجد تمرار الأحمدى «٨٧٦هـ - ١٤٧٢م- أثر رقم ٢١٦»، سبيل السلطان قايتباى بالأزهر «٨٩٧هـ - ١٤٧٤م- أثر رقم ٤١٢»،

ويوجد سبيل آخر بناه السلطان قايتباى أيضاً بالصليبة «٨٨٤هـ- ١٤٧٩م - أثر رقم ٣٢٤»، يوجد سبيلان آخران ينتميان إلى نهاية العصر المملوكى، يوجد الأول داخل مسجد السلطان الغورى، والآخر داخل قبته المبنية أمام المسجد.

سلاطين المماليك هم أول من اهتم ببناء الأسبلة، وأولوها عنايتهم، وأوقفوا عليها الأوقاف الواسعة، جاء فى وثيقة وقف السلطان قايتباى:

«ووَقْف السبيلان وهما السبيلان المرخم الكبير الذى هو بواجهة الجامع الشريف المذكورة أعلاه على الطريق الجادة مما يلى الجامع الكبير، والسبيل المبلط الصغير الذى من جهة الباب الصغير من بابى الجامع المذكور لتسبيل الماء العذب من ماء النيل المبارك بهما للناس على الدوام. ووقف الصهريجين اللذين بالسبيلين المذكورين حاصل لاستقرار ماء النيل المذكور بهما ليسبل ذلك شيئاً فشيئاً للناس على العادة فى ذلك على الدوام».

وفى وثيقة السلطان الغورى نجد:

«وأما السبيل فوقفه للانتفاع به فى تسبيل الماء على المارة فى الطريق».

نصت وثائق الأوقاف فى معظمها على أن يكون الماء عذباً ومن النيل، وأن يتوفر الماء طوال العام صيفاً وشتاء، خاصة فى الصيف حيث يتزايد استهلاك المياه، تتضمن وثيقة وقف السلطان قايتباى:

«يصرف فى كل شهر يمضى من شهور الأهلة من الفلوس الموصوفة أعلاه ألف درهم، نصفها خمس مائة درهم، أو ما يقوم مقام ذلك من النقود عند الصرف، يشترى بذلك ماء عذب من ماء النيل المبارك موزعاً فى طول أيام الشهر بالسوية، يسبل ذلك مزملاتى هذا السبيل لجميع من يرد على ذلك من الناس فى أوانى السبيل المذكور، سفل الربع الظاهرى، فى زمن التسبيل المعين بسبيلى الجامع المذكور أعلاه، على ما تقدم شرحه وبيانه أعلاه،

وإذا رأى الناظر على ذلك أن القدر المعين صرفه فى كل شهر لثمن ماء السبيل الكائن تحت الربع الظاهرى يفضل منه شىء فى أيام الشتاء لقلة شرب الناس فيه، فيدخر الفاضل من أيام الشتاء لأيام الصيف، ويزيده فى ثمن الماء المسبل فى أيام الصيف، فيصرف الناظر فى ذلك بما يرى فيه الحظ والمصلحة، بحيث لا يفرط فى ذلك ولا يفرّط، ولا يخرج فى سلوكه عن السنن المتوسط».

والمزملاتى هو الشخص المسؤول عن تزويد السبيل بالمياه، وقد وضعت شروط عديدة لمن يتولى هذه الوظيفة نصت عليها كتب الحسبة وكذلك وثائق الأوقاف، منها أن يكون المزملاتى نظيفاً، جميل الهيئة، سليم البدن من العلل والأمراض المعدية، خالياً من العاهات، وموضع ثقة وأن يعامل الناس بالحسنى، والرفق، ليكون سبباً فى إدخال الراحة على الواردين والقاصدين السبيل، كذلك يتولى نظافة السبيل، والعناية بالأدوات اللازمة له، مثل الكيزان، وأوعية الشرب، وأدوات التنظيف، نفس العناية الموجهة لتسبيل المياه، كانت أيضاً تحيط بالأدوات المستخدمة، مثل الليف اللازم للتنظيف، والمكانس، دلاء الجلد، وأوانى الشرب، والأسطال النحاسية، والأباريق، وقلل الفخار، والسفنج، وفوط المسح، وخصص أصحاب الأسبلة أماكن لحفظ هذه الأدوات، كان المكان منها يعرف باسم الخوستان أو الخرستان أى الخزانة الخشبية.

وكان تزويد الأسبلة بالمياه يتم طوال ساعات النهار، أما فى شهر رمضان فتتغير المواعيد، يبدأ تسبيل المياه بعد الغروب إلى ما بعد صلاة التراويح. تنص وثيقة وقف السلطان الغورى على تسبيل المياه فى جميع أوقات النهار من شروق الشمس إلى غروبها، وحتى نزول الليل، وإيواء الناس فى بيوتهم وانقطاع الرِجل عن الطرقات، يسرى هذا فى جميع الأيام، عدا شهر رمضان، حيث نصت الوثيقة على ضرورة بدء تسبيل المياه أول وقت الغروب إلى أن يأوى الناس إلى مساكنهم.

بعض الواقفين اكتفوا بالنص على فتح السبيل فى أوقات الحر الشديد، من الظهر إلى العصر، فيما عدا شهر رمضان فيفتح السبيل من المغرب إلى العشاء، وعندما ينزل الليل، كان المزملاتى يملأ أحد الأوعية ويضعه عند مقدمة السبيل، وإلى جواره كوز، حتى إذا احتاج أحد المارة فى أى وقت من الليل إلى شربة ماء أمكنه أن يجدها.

لم يكن الاهتمام بتقديم المياه العذبة إلى الناس فقط، بل شمل ذلك أيضاً الحيوانات.. عرف العصر المملوكى كثيرا من أحواض المياه الموقوفة سبيلاً لله لسقى الدواب، تقول وثيقة وقف السلطان الغورى:

«ووقف حوض السبيل المذكور أعلاه، بالقرب من الجامع المذكور فيه، وفسقية الحوض المذكور المجاورة له لاستقرار الماء الذى يجرى إليها من بير الساقية المذكورة أعلاه المعلقة بذلك، لينتفع به فى سقى الدواب المارة على ذلك، والمترددة إليه، وفى غير ذلك من الانتفاعات الشرعية على العادة، فى ذلك، وجعله سبيلاً إلى الله».

وأذكر أننى رأيت أحد الأحواض المخصصة لسقى الدواب فى الجمالية، ومازال قائماً حتى يومنا هذا أمام مبنى قسم الجمالية فى ميدان بيت القاضى، حوض مستطيل بنى من الحجر، كانت الأحصنة والبغال والحمير تصطف حوله لتعب الماء، بينما يتناثر فوق مياهه ذرات التبن، وكان يزود بالماء من الحنفية العمومية المجاورة له، ولكن فى السنوات الأخيرة رأيت هذا الحوض جافاً، خلواً من الماء، نضب كما نضبت الأسبلة، واختفت علامة من علامات الرحمة.

الأسبلة العثمانية

فى مرج دابق، شمال حلب، انتهى الزمن المملوكى، بعد أن هزم الجيش المصرى، وقتل السلطان الغورى، تمكن العثمانيون من مصر حامية الحرمين، وحارسة البحرين، وبدأ الزمن العثمانى، وشملت القاهرة تغيرات عديدة، ظهر الطابع العثمانى فى العمارة، انتصبت المآذن النحيلة فى الفراغ فوق المساجد التى أقيمت فى هذا الزمن، المآذن الخالية من زخرف. ورغم التدهور الذى أصاب مصر والتخلف،
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالأحد أغسطس 30, 2009 5:06 am

فإن ثمة عناصر من الزمن المولى، المندثر بقيت، منها اهتمام عدد من الأمراء بالبناء، وأعمال الخير، التى كان الكثير منها يبرر - فى نظر أنفسهم - قسوتهم وظلمهم، واستمر بناء الأسبلة بعد عام ١٥١٧، عام الانكسارة العظمى، والمصيبة التى طمّت، والكارثة التى حلّت. استمر بناء الأسبلة لأنها ضرورة لاستمرار الحياة فى المدينة، ونلاحظ أنه لحق بعمارتها بعض التغيير، كان السبيل فى العصر المملوكى ملحقاً بالمسجد أو يشغل ركناً منه. فى العصر العثمانى استقل،

وأصبح وحدة معمارية منفصلة مستقلة، فى البداية كان مربع الواجهة تزينه نوافذ نحاسية جميلة يمكن للمار أن يمد يده من خلالها ليشرب الماء من الحوض الرخامى ناصع البياض الذى يلى النافذة، وكان الصهريج الذى يتم تخزين المياه فيه، يوضع فى مستوى أقل من مستوى الأرض، وفوق الجزء الأوسط المخصص لتقديم مياه الشرب يقع الكتاب، ويتم الصعود إليه بواسطة سلم يؤدى إلى غرفة الدراسة الرحبة والمحاطة بشرفة تتيح تجدد الهواء، أقيمت فيها العمد، تتوسطها قطع من المشربيات الخشبية الأنيقة، وتحت الأعمدة توجد الكوابيل الخشبية المزخرفة، ومثل هذه الأسبلة يمكننا أن نراها فى الشام، واسطانبول.

أقدم سبيل عثمانى وصل إلينا، سبيل وكتاب خسرو باشا بالنحاسين، (٩٤٢هـ- ١٥٣٥م- أثر رقم ٥٢)، أى بنى بعد الغزو العثمانى بربع قرن، يليه سبيل يوسف الكردى فى القرن السادس عشر (أثر رقم ٢١٣)، ثم سبيل الأمير محمد (١١٤هـ- ١٦٠٥م- أثر رقم ١٤)، ثم سبيل القزلار (١٦١٩م- أثر رقم ٢٦٥)، ثم سبيل مصطفى سنان (١٦٣٠م- أثر رقم ٢٦٤م).

فى هذه الأسبلة يمكننا أن نلاحظ عناصر الصراع فى المعمار، بين طراز الأسبلة المصرى الأصيل، كما عرف فى العصر المملوكى، وطراز الأسبلة العثمانية الوافد، الدخيل، ويمكن القول إن عناصر العمارة المصرية كانت هى الغالبة، كان التمسك بالجذور قويًا، نفس هذا الصراع يمكننا أن نلحظه فى طراز المساجد أيضًا، ولكن مع بداية القرن التاسع عشر، نلاحظ أن عناصر العمارة العثمانية قد بسطت سطوتها، مع عدم اختفاء عناصر الصراع والمقاومة، غير أن طابع المحتل كان هو المسيطر، لقد استدارت واجهة السبيل وأصبحت تشتمل على تقويسات تعلو نوافذه،

وصارت له قاعدة تلف حوله بدرجات من المرمر، وأوضح مثال على هذا الطراز سبيل محمد على بالنحاسين الذى يقع فى مواجهة مجموعة آثار قلاوون، وسبيله بالعقادين الذى يقوم فى مواجهة مسجد المؤيد، وسبيل أم عباس الشهير بشارع الصليبة، وسبيل رقية دودو.

لقد احتاجت العمارة العثمانية الدخيلة أكثر من ثلاثمائة عام لتقهر عناصر العمارة المصرية، وعندما قهرتها كان العصر كله ينبئ بالزوال، وعلى الرغم من وجود هذه النماذج المحدودة فإن التقاليد المعمارية المصرية القديمة كانت لها الغلبة. فى سبيل سليمان أغا حنفى بقرافة المماليك القبلية نجد أنه ملحق بالضريح كجزء من البناء ذاته،

وقد بنى حوالى عام ١٢٠٦هـ - ١٧٩٢م كذلك سبيل سليمان السلحدار (١٨٣٩) الملحق بمدرسته والمجاورة لحارة بيرجوان مسقط رأس المؤرخ الكبير المقريزى. تمامًا كأسبلة سلاطين المماليك العظام الذين ولى عصرهم فى موقعة مرج دابق شمال حلب.

من أسبلة القاهرة

إذا مضينا إلى شارع شيخون سنرى سبيل السلطان قايتباى، إنه واحد من أجمل أسبلة الزمن المملوكى، تطالعنا واجهتان شامختان كسيتا بالرخام الملون، تعلوه لوحة عسلية عليها كتابة نصها:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالأحد أغسطس 30, 2009 5:06 am

«أمر بإنشاء هذا السبيل المبارك السعيد من فضل الله تعالى وجزيل عطائه العميم مولانا المقام الشريف السلطان المالك الملك الأشرف أبوالنصر قايتباى بتاريخ شهر ذى الحجة سنة أربع وثمانى مائة».

يعلو هذا السبيل كتاب لتعليم الأطفال وتحفيظهم القرآن الكريم، ويعتبر السلطان قايتباى أول من خصص هذا الجزء للتعليم فى الأسبلة.

إذا مضينا إلى شارع المعز لدين الله، حيث تتجاور الآن عصور متباعدة، وإذ بدأنا المشى من بوابة الفتوح وحتى بوابة زويلة فسنرى عدداً كبيراً من الأسبلة، لا يتجمع مثله فى أى مكان بمصر، قرب حارة بيرجوان، ومدخل الدرب الأصفر، نرى سبيل سليمان السلحدار الملاصق لمدرسته،

وينتمى إلى القرن التاسع عشر، إذا تقدمنا قليلاً، وتجاوزنا مسجد الأقمر الفاطمى، وشارع الخرنفش، ثم أولينا ظهورنا للصاغة، وتطلعنا، سيواجهنا أجمل أسبلة القاهرة على الإطلاق فى رأيى، سبيل وكُتَّاب بين القصرين، الذى أنشأه الأمير عبدالرحمن كتخدا (١٧٤٤)، والأمير عبدالرحمن كتخدا من بنائى القاهرة العظام، إذ شيد ثمانية عشر مسجداً، وأجرى توسعات مهمة فى الأزهر، وأقام العديد من الأضرحة، وأصلح عدداً كبيراً من المساجد والمدارس المملوكية.. هذا السبيل على الرغم من أنه بنى فى العصر العثمانى، فإنه احتفظ بتقاليد العمارة المصرية وشخصيتها الأصيلة..

يقع السبيل فى مفترق الطرق، الطريق المؤدى إلى شارع التمبكشية، والطريق المؤدى إلى الخرنفش، يطل على شارع المعز لدين الله بواجهتين: واحدة أمامية، والأخرى جانبية، وعلى الشارع الآخر بواجهة ثالثة، كل واجهة من الثلاث لها فتحات عقودها من الرخام الملون، عليها شبابيك من النحاس الجميل، ويعلو السبيل كُتاب تحيطه مظلات خشبية وحواجز من الخشب المشغول الجميل، وقد نقشت على الحواجز الخشبية كتابات بها اسم المنشئ وتاريخ الإنشاء:

«أنشأه الأمير عبدالرحمن كتخدا مستحفظان بن المرحوم حسن كتخدا القازغلى غفر الله له سنة ١١٥٧هـ».

على ناصية حارة الروم، وفى مواجهة مسجد المؤيد شيخ، نرى سبيلا آخر بناه محمد على باشا، وهذا السبيل أقيم قبل السبيل الموجود فى النحاسين، إذ بنى عام ١٢٣٦ هـ - ١٨٢٠م، صدقة على روح الأمير طوسون المتوفى عام ١٢٣١ هـ - ١٨١٦م، وملحق به كُتاب لتعليم الأطفال،

إنه يشبه سبيل محمد على بالنحاسين، الواجهة مكسوة بالرخام الأبيض، بها خمسة شبابيك من النحاس المصبوب فى أشكال زخرفية، كل شباك تعلوه لوحة رخامية بها كتابات تركية تعلوها زخارف مورقة يتوسط بعضها طرة، والأخرى عبارة «ما شاء الله»، يغطى الجميع رفرف خشبى بارز محلى بالنقوش، أما حجرة السبيل فمغطاة من الخارج بألواح من الرصاص، أما داخلها فمغطى بالنقوش الملونة.

من أشهر أسبلة القاهرة، سبيل أم عباس، بشارع الصليبة، إنه عثمانى الطراز تماماً، أنشئ عام ١٢٨٤ هـ - ١٨٦٧م مبناه فسيح، متسع، أرضه مفروشة بالرخام وسقفه منقوش بالأصباغ الذهبية، شبابيكه من النحاس الأصفر، تتخللها دوائر عليها آيات قرآنية.

أمرت بإنشائه والدة الوالى عباس الأول، إنه أحد آخر سبيلين تم بناؤهما فى القاهرة، أما السبيل الآخر، فهو سبيل أم حسين بك، ويقع فى نهاية شارع الجمهورية قرب نهايته من ناحية ميدان رمسيس، أنشئ عام ١٢٨٦ هـ - ١٨٦٩م.

بعده لم يقم فى القاهرة سبيل آخر، فقد بدأت شركة المياه تمد مواسيرها إلى أحياء القاهرة، وحلت الحنفية العمومية مكان السبيل، ثم دخلت مياه الشركة إلى معظم البيوت، وأصبحت الأسبلة مجرد أبنية أثرية، تتوارى الآن فى معظمها تحت طبقات من النسيان، يعانى بعضها الإهمال ويتعرض أجملها للسرقة دون رادع، ويغطى واجهات البعض الآخر بضاعات الباعة الجائلين،

ونرجو أن تشمل هذه الأسبلة عناية المجلس الأعلى للآثار، لن يحتاج الأمر إلا لحملة تنظيف، وإخلاء واجهات الأسبلة من شاغليها، عندئذ تسترد القاهرة أكثر من ستين عملاً فنياً معمارياً فريداً، لن تعرف الأزمنة المقبلة مثلها.

نفارق سبيل رقية دودو المنهوب ونواصل فى اتجاه مسجد الطنبغا الماردانى ساقى السلطان.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالإثنين أغسطس 31, 2009 6:24 pm

اليوم تمر ثلاثة أعوام كاملة على رحيل العم نجيب محفوظ.. الحسين عنده يعنى المكان والزمان والعمر الجميل

كتب جمال الغيطانى ٣٠/ ٨/
2009


ما أسرع مرور الزمن، وما أقدرنا على النسيان، فلا المتحف الخاص به افتتح، إنما الموجود فى بين القصرين متحف للنسيج لا أعرف سر إقامته فى هذا المكان الذى ارتبط بمحفوظ، ولا مشروع المزارات المحفوظية الذى قدمته كاملاً بجميع تفاصيله إلى محافظة القاهرة خرج إلى النور، بل جرى افتتاح حديقة فى مدينة نصر تحمل اسم محفوظ ولا أدرى علاقته بمدينة نصر التى لم يذهب إليها إلا مرة واحدة لتناول الإفطار فى مرة نادرة بمنزل الحرفوش عماد العبودى، وكان من حرافيش الأستاذ.

نجيب محفوظ اكتشف القاهرة القديمة أدبياً وإنسانياً، كما اكتشف كولومبس أمريكا، فى القاهرة أماكن أجمل من زقاق المدق لكن لا يعرفها أحد لأن محفوظ لم يكتب عنها، إنها الركن الركين الذى كان ينطلق منه محفوظ إلى الدنيا وإلى الكون، كان يطلق على المنطقة «الحسين».. كانت تربطه بمولانا وسيدنا صلة حميمة، عميقة، مثله مثل كل المصريين الذين يتعلقون بآل البيت، انطلاقاً من محبة عميقة ليست ناتجة من منطلق مذهبى.. مصر التى صهرت المذهبين السنى والشيعى فى بوتقة روحها نتيجة اعتدالها ووسطيتها وهذا ما يتعرض للقلقلة ولسوء التفاهم الآن الناتج عن قلة معرفة وفقر ثقافة عند بعض المسؤولين اللذين كان أحد أعراضهما ذلك القرار العجيب بإلغاء الموالد، وهذا مما يطول الحديث فيه وسأعود إليه بالتفصيل.

يطل عليّ محفوظ من أفق الأبدية، لكم صحبته فى الحوارى التى أحبها، والأقبية التى أججت خياله! وفى روايته تحول قبو قرمز إلى رمز للصلة بين العالم المنظور والعالم الخفى» كانت القاهرة القديمة كلها ملخصة فى شخص.. فى اسم.. إنه الحسين، يردد دائماً: «نفسى أروح الحسين..»

يسأل عن «أهل الحسين»

ويترقرق وجهه، إذ أحدثه عن دعوات الناس له هناك بعد تعرضه للحادث الأثيم فى عام أربعة وتسعين، والذى كان نقطة تحول كبيرة فى حياته، ولذلك سوف أستعيد تفاصيل ما جرى، ما قُدّر لى أن أشهده.

لن يعرف معنى وصية محفوظ فى أيامه الأخيرة أن يصلى عليه فى المشهد الحسينى إلا مَن عرفه عن قرب، وعرف حبه وتعلقه بسيدنا ومولانا، ليس مكاناً فقط، وإنما سيرة ومعنى، ومكاناً فريداً يقصده الناس جميعاً ويلوذون به من الآلام ومرارات الفقر والوحدة. ثمة عناصر تستعصى على التوصيف، تصل المصريين بالحسين الذى احتل فى القلوب مكانة أوزير القديم الذى استشهد من أجل الخير والبشرية، تماماً مثل السيد المسيح، ومولانا الحسين، إنه ذروة الهرم الذى يتكون من أولياء الله الصالحين وتتوزع مواقعهم على مصر ومما لاحظته وأشرت إليه مراراً، ذلك النظام الهرمى الموازى للسلطة السياسية الدنيوية..

الحسين فى القمة مفرداً، الوجه القبلى فيه سيدى عبدالرحيم القنائى السبتى (من سبتة بالمغرب)، الوجه البحرى له سيدى أحمد البدوى الفاسى (من فاس بالمغرب)، ثم يتدرج الأمر نزولاً، كل محافظة لها شيخ كبير، وصولاً إلى أصغر قرية أو نجع، فإذا لم يكن الشيخ الصالح معروفاً نجد ضريحاً اسمه «الأربعين».. التوزيع نفسه نجده بالتوازى عند القديسين الأقباط.

أعود إلى محفوظ، فى الأيام السابقة على الرحيل بالمستشفى كان الحضور يتداخل بالغياب، عندئذ ينطق بأسماء، هل كان يرى ملامح أصحابها؟ هل كانت تفد عليه من اللا وعى؟ أسماء أعرف بعضها، أخرى أجهلها، لم أسمعها منه قط، أسماء متباعدة، لا يصل بينها موضوع، هكذا الأمر عندما يبدأ انهيار الذاكرة وتعجز الحواس عن مساندة النطق، الاسم الوحيد الذى كان يتكرر بوضوح ونصوع «الحسين.. الحسين».

ترى ماذا كان يراه عندما ينطق به؟ هل كانت تفد عليه النواصى التى أحبها، وواجهات المبانى والأسبلة التى تعلم فيها، والأقبية التى أثارت خياله؟ حتى عام أربعة وتسعين كان يتردد على المكان، يجوس به، بعد الحادث توقف، دخل الحسين إلى منطقة الذكريات. أكتوبر عام أربعة وتسعين، إنه التاريخ الفاصل المحدد الذى قطع صلة محفوظ بالمكان، الذى يمثل عنده مركز الروح، جرى ذلك عندما استهدفه فتى أغرّ لم يقرأ له حرفاً، تلقى أمراً بغرس سكينه فى رقبة الشيخ المسالم الذى مد إليه يده ليصافحه.. لحظة فارقة، لذلك سأتوقف عندها طويلاً، لا أبالغ إذا قلت إن احتضار الكاتب الكبير بدأ منذ ذلك اليوم، رغم تدخل العناية الإلهية وإنقاذه بعد شهرين أمضاهما فى مستشفى الشرطة المجاور الذى شهد نهاية النهاية.

هل أبالغ إذا قلت إنه منذ رحيل الأسرة إلى شارع رضوان شكرى بالعباسية وهو مغترب؟! ثلاثة عشر عاماً أمضاها فى الجمالية، مطل على العالم من نافذة البيت فى ميدان بيت القاضى، متابع ما يجرى فى الميدان، فى قسم البوليس المواجه، فى درب قرمز الذى لعب فيه مع أصحاب الطفولة، فى حارة الكبابجى التى يقع بها الكتاب الذى تعلم فيه تمييز الحرف من الحرف قبل التحاقه بمدرسة بين القصرين الابتدائية.

عندما انتقلت الأسرة من الجمالية إلى العباسية، من الحسين إلى شارع رضوان شكرى، كان عمره ثلاثة عشر عاماً، أى أنه عرف خفقات القلب الأولى، ورعشات العاطفة، وأحاسيس الانتقال من طور الطفولة إلى المراهقة.

هنا تكون تأسست حواسه وذاكرته، لذلك لم يكن غريباً أن يردد فى لحظة غيابه الاسم الحبيب إلى القلب، لا أحد من سكان القاهرة القديمة يذكر المكان باعتباره الجمالية، أو الخرنفش أو خان الخليلى، إنه الحسين.

بعد انتقال الأسرة، وعند بلوغه مرحلة الشباب بدأ يعود إلى الحسين، بدأ يستأنف علاقته بالمكان، اتصلت العلاقة على امتداد عمره فلم تنقطع إلا قسراً بعد ضربة الجهل عام أربعة وتسعين.

«لكل إنسان مكان يرتبط به، يصبح بمثابة الركن الذى يأوى إليه، وعندما يتقدم فى العمر يصبح المنشأ هو المأوى»..

تلك كلماته بالنص التى قالها لى عندما سألته عن علاقته بالمكان، عاد إلى الجمالية ليكتشف المكان مرة أخرى، وليراه من خلال خصوصية البشر الذين يعيشون فيه، ومن يعرف الناس فى الحسين سيدرك أيضاً ما أشير إليه.. فيهم تتجسد خصال من نطلق عليهم «أولاد البلد»، القيم، اللغة، طرق التعبير، منهم التقط نجيب محفوظ شخصياته وشيد مفردات عالمه، رحل فى المكان أفقياً ورأسياً، هكذا رأى أبعاد الإنسانية كلها من خلال زقاق المدق وبين القصرين، وخان الخليلى.

عندما عاد إلى الحسين، لم يكن له بيت يقيم فيه، أصبحت إقامته فى المقاهى، مقهى الفيشاوى الذى كان مكتملاً، يشبه عالماً قائماً بذاته حتى تم هدمه عام تسعة وستين من القرن الماضى، لم يتبق منه إلا جزءاً صغيراً كشظية، كذلك مقهى زقاق المدق، ومقهى الحمزاوى الغريب الذى يشبه الشق الضيق، ومقهى البنان، كان له صداقات مع أصحاب المتاجر والمحال، كان جزءاً منهم، عاش الأستاذ بين الناس، يسعى بينهم، ويبادلهم الحب ويبادلونه، وعندما شنت ضده الحملات الصحفية التى مهدت المناخ ليوم الجمعة هذا، وظهرت ضده كتب ألفها فقهاء الظلام ضد «أولاد حارتنا»، رفض الحراسة، وقتها قال لى إنه لا يتخيل نفسه ماشياً فى الشارع ومعه حارس، كان لديه إيمان عميق ويقين داخلى بأن أذى لن يلحقه، مرة أومأ برأسه، وقال لى: الأعمار بيد الله.

غير أننى كنت أتوجس خيفة، نتيجة تجاربى السابقة خلال الستينيات، والمطاردة، وتوقع الاعتقال، إذ إننى أنتمى إلى جيل فتح عينيه على الرعب، وانخرط فى العمل السرى ضد الأوضاع التى رآها كثيرون منا خاطئة، نتج عن ذلك إحساس أمنى حاد، استقرت لقاءاتنا منذ بداية التسعينيات على الثلاثاء، وعندما أصبحت رئيساً لتحرير أخبار الأدب، وأصبحت لى سيارة خاصة من دار أخبار اليوم يقودها زميل من السائقين، توليت مهمة صحبته من البيت.

فى السادسة إلا خمس دقائق أنتظر، فى السادسة تماماً يخرج من باب العمارة، أتقدم إليه أصحبه حتى يصل إلى العربة، أفتح الباب، يفضل الجلوس فى المقعد الأمامى إلى جوار السائق، ثم ننطلق إلى المكان الذى اعتدنا اللقاء فيه، والذى استقر خلال التسعينيات فى مركب راسٍ على شاطئ النيل، اسمه «فرح بوت» ومازال.

رغم أننى غير مسلح، ولو أننى مسلح فلا أجيد استخدام السلاح، إلا أننى كنت عند وصولى أمام البيت أمسح المكان ببصرى، أتصور هجوماً ما، إن انتظامه الشديد يسهل على من يرصده توقيت الهجوم. كنت أتوقع ذلك، أستشعره مع تصاعد أعمال العنف فى المجتمع من الجماعات المتطرفة، التى كانت فى جوهرها حركات احتجاج على الفساد والخلل، لكنها ضلت طريقها عن أهدافها الحقيقية لأسباب يطول شرحها.

بعد نشر صورة الشاب الذى غرس السكين فى عنق الأستاذ عصر يوم الجمعة هذا، تذكرته فى مرة، كنت أنتظر الأستاذ، كان الجو حاراً لفت نظرى شاب يرتدى الجينز يجلس تحت الشرفة المغطاة حيث يعيش الأستاذ فى الطابق الأرضى، شرفة بعرض الشقة زجاجها سميك، مسور بقضبان مزخرفة، وأضافت السيدة عطية الله، رفيقة عمر الأستاذ، نباتات شكلت حديقة صغيرة مبهجة تغطى الطابق كله.

تطلعت إلى الشاب الذى بادلنى النظر الحاد، ثم تشاغل بتقطيع ورق كان يحمله إلى قطع صغيرة، لم يبد رد فعل، بل استمر قابعاً مكانه، فكرت.. ربما يستظل من الحر، لكن صورته قفزت إلى ذهنى بعد أسابيع عندما نشرت، أنه الشاب نفسه الذى تقدم من الأستاذ عصر ذلك الجمعة ليصافحه بيد وليغرس بيده الأخرى سكيناً قديماً، مقبضه مخلوع ومربوط بخيط ودبارة، متين.. طعنة وضعت حداً لحقبتين متمايزتين مختلفتين تماماً، الثانية منهما مستمرة حتى الآن.

أعود إلى أوراقى الخاصة التى دونت فيها وقائع تلك الأيام من سنة أربعة وتسعين، بالتحديد الجمعة، الخامس عشر من أكتوبر، فى هذا اليوم كنت ألتمس الراحة عقب عودتى أمس الخميس من رحلة إلى المغرب، كنت أرتب مكتبى الذى تغيبت عنه وأستمع إلى بعض التسجيلات الموسيقية الأندلسية التى اقتنيتها من مدينة فاس العتيقة.. رن جرس الهاتف، جاءنى صوت الزميل والصديق مصطفى بكرى:

«هل علمت أنهم ضربوا نجيب محفوظ؟! أرجوك تأكد من هذه الأخبار».

أجبت بالنفى، طلبت منه أن يتصل بى بعد قليل.. فوجئت.. جمدت للحظة.. لحظة كنت أتوقعها وأتمنى ألا تحل، يبدو أننى فى مواجهتها الآن، ثمة ثوان قبل أن تبلغ الضربة مراكز الألم فى المخ، سيطر على هذا الحال بينما مَثُل أمامى الرجل الطيب، حضوره الأبدى، وصحبتى له، اتصلت بمنزله، أجابتنى ابنته الصغرى، قلت بصوت محايد وكأننى لا أقصد أمراً محدداً وأقصد: «خير.. ما الأخبار؟».

أجابتنى بألم وخشية من المجهول:

«لا أعرف ما يجرى الآن، بابا فى غرفة العمليات، والنبى ادع له يا عمو..»

ثم قالت:

«ماما واختى عنده.. هنا فى مستشفى الشرطة جنبنا..».
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالإثنين أغسطس 31, 2009 6:25 pm

نطقتُ جملاً قصيرة، استهدفت منها بث الطمأنينة دعوت له بالنجاة، بدأت أتصرف، اتصلت بزملائى فى مركز تحرير جريدة أخبار اليوم، كنت أول من ينبئهم بالخبر، اتصلت بصديقى يوسف القعيد، كان فى منزله، قال إن أحد أصدقائه اتصل به مستفسراً، اتصلت بالصديق عماد العبودى، المهندس ورجل الأعمال، كانت جلسة الثلاثاء محدودة وقتئذ وكان عماد أحد أركانها، قال إنه سيمر على يوسف ويمران عليّ ثم نتجه إلى المستشفى.

نزلت إلى الطريق، كنت فى مواجهة الليل والخوف مما يجرى، ونشطت الذاكرة لتمطرنى بدفق من اللحظات المولية، هذا حال أعرفه عندما يهددنا الواقع بفقد صديق، تبرق لحظات أعرفها، لحظات سمعت عنها.

انتظارى كل ثلاثاء أمام البيت، ما حدث اليوم والدكتور فتحى هاشم إلى جواره كان ممكناً حدوثه معى، إصغائى إليه، اقترابى من أذنه اليسرى التى مازالت حاسة السمع فيها قوية بمساعدة السماعة، رفعى الصوت، لحظات صمته، شرود نظراته، سعيه فى الطريق السادسة صباحاً بجوار النيل الذى أحبَّه وأقام فى عوامة بعد زواجه لمدة سنة، ثم سكن على مقربة منه، محفوظ النيل ونيل محفوظ، شراؤه الصحف، استقراره فى مقهى ريش، مقهى جروبى، مقهى على بابا، فى هذه المقاهى قرأ الصحف، كتب برقيات العزاء أو التهانى، دوّن بعض الملاحظات، أمسيات مقهى عرابى، رائحة التنباك المنبعثة من النرجيلة التى تعلمت تدخينها منه ثم توقفت عنها، ضحكاته المجلجلة مع صحبة أصدقاء الطفولة من شلة العباسية، سعينا فى حوارى الجمالية.. احترامى لحظات صمته بمقاهيها العتيقة عندما يستعيد زمنه الخاص، لا أتكلم إلا إذا تحدث هو.. محبة الناس له، مشيه بينهم، يرد التحية لهذا، يصافح ذاك، لا يرد أى إنسان، صبر عجيب، تواضع جم، سماحة لم أعرف مثيلاً لها، لحظة تناوله الطعام كل ثلاثاء بصحبتنا، طعام الزهاد: قطعة جبن أبيض، شريحة طماطم، قرص طعمية، فقط لا غير.

ما لم أعرفه معه صباه فى بيت القاضى، شجر ذقن الباشا، خناقات الفتوات، حب الحسين، لعبه فى قبو قرمز، الثورة عام ١٩١٩، الثلاثينيات، العصر الذهبى للقاهرة، الحرب العالمية الثانية، المخابئ، انتهاء عصر الفتوات، الغذاء فى العجاتى، الدهان، الكباب والكفتة، السهر فى توفا بيان، مقهى زقاق المدق، وزارة الأوقاف فترة العمل فى قبة الغورى، الثورة.

نجيب محفوظ، إنه عصر بأكمله مختزل فى إنسان، عاش المجتمع المصرى وعبّر عنه طيلة سبعين عاماً من الكتابة المتصلة، وهذه حالة فريدة فى تاريخ الأدب والأدباء، كدت فى ذلك اليوم القصى البعيد الآن وقد أدركت هول ما جرى، وبدأت أستوعب أن أولول وأصرخ باكياً:

«يا أستاذى.. يا حبيبى».

عندما وصلنا إلى المستشفى الذى يقع بجوار البيت، على بعد ثلاثين متراً تقريباً، وهذا من لطف التدبير الإلهى وعنايته، كان قد مضى على تسديد الطعنة حوالى ساعتين، دخلنا إلى قاعة الانتظار القريبة من غرفة العمليات، كان ـ المرحوم ـ ثروت أباظة ينهنه كطفل راح يردد:

«نجيب.. نجيب.. معقول أن يؤذيه أحد.. أن يمسه أحد..».

نرجوه الهدوء ونحن فى حاجة إلى من يهدئنا، هناك فى الطابق الثانى يرقد الأستاذ فوق طاولة العمليات ممدداً، فريق من الجراحين المهرة يقودهم أهم جراح أوعية دموية فى مصر، الدكتور أحمد سامح همام، مرة أخرى أوقن تدخل العناية الإلهية.

المرة الأولى، لأن المسؤول عن صحبة الأستاذ اليوم الدكتور فتحى هاشم، وهو طبيب بيطرى لكنه طبيب أولاً وأخيراً، عندما ركب الأستاذ السيارة واستقر إلى جواره، تقدم ذلك الشاب منه، صافحه ثم دفع بمطواة قرن غزال فى رقبة الأستاذ وبدأ محاولة الذبح كان يستهدف قطع الشريان السباتى الرئيسى الموصل للدم إلى الدماغ والمخ. كما قال لنا فيما بعد:

«بعد أن صافحنى شعرت بوحش من نار يطبق على رقبتى..»

ما أنقذ نجيب محفوظ شيخوخته، انحناؤه إلى الأمام بسبب السن، مرت المطواة بسبب ذلك قرب الشريان الرئيسى، فى هذه اللحظة عندما بدأ اهتزاز العربة انتبه الدكتور فتحى هاشم إلى ما يجرى صرخ:

«بتعمل إيه يا مجنون..»

قفز من السيارة، هنا ألقى الشاب بالمطواة، وبدأ الجرى، تعقبه فتحى لكنه آثر العودة إلى الأستاذ المصاب، كان الدم يتدفق كنافورة، بسرعة جلس مكانه، ضغط الجرح بيد، وبيد واحدة قاد العربة الصغيرة إلى الخلف قاصداً المستشفى، قطع الأمتار القليلة الفاصلة، وعندما وصل إلى البوابة الرئيسية هرع إلى الباب صارخاً:

«افتحوا.. الأستاذ نجيب محفوظ حاولوا..»

بسرعة فتح الباب، حتى هذه اللحظة كان الأستاذ واعياً، انزلوه إلى نقالة متحركة، قبل أن يغيب وعيه قال:

«خذوا بالكم أنا عندى سكر..»

الحق أن التصرف جرى على أرفع مستوى، بعد تقرير سريع للموقف، اتصلت إدارة المستشفى بالدكتور أحمد سامح همام، وهنا يتدخل القدر، لم يكن المحمول معروفاً فى مصر وقتئذ، جرى الاتصال فى وقت كان فيه الجراح الشهير يقف أمام المصعد فى الطابق الذى يسكنه متأهباً للمغادرة إلى دعوة عشاء. لحقوا به قبل ركوب المصعد. لبى على الفور، لم يستغرق وصوله إلا مسافة الطريق، ودخل إلى غرفة العمليات على الفور، وصل اللواء حسن الألفى، وزير الداخلية وقتئذ، والدكتور على عبدالفتاح وزير الصحة وقتئذ، والدكتور ممدوح البلتاجى وزير السياحة وعدد من كبار المسؤولين بمباحث أمن الدولة، مازلت أذكر الأنباء التى كانت تصلنا من غرفة العمليات:

«تم إيقاف النزيف.. كان الدم يتدفق مثل النافورة..»

«تم نقل ثمانية لترات من الدم.. أربعة عشر كيساً».

أمام المستشفى، جرى تجمع من مثقفين وناس عاديين توافدوا إليه بعد سريان الخبر، وتطوع كثيرون بدمهم لإنقاذ الأستاذ، بعد أربع ساعات جاءنا النبأ:

«نجحت العملية.. ويجرى نقل الأستاذ إلى غرفة الرعاية المركزة..».

بعد منتصف الليل، مشينا فى طرقات المستشفى الذى عرف الهدوء بعد الساعات العصيبة، كنا أربعة: يوسف القعيد وعماد العبودى وممدوح الليثى، قطعنا الممرات الطويلة، لم نكن نعرف وجهتنا على وجه الدقة، أخيراً وصلنا إلى غرفة الرعاية المركزة التى يرقد فيها أكثر من مريض، كان نائماً على ظهره، لأول مرة فى حياتى أراه دون نظارة طبية، بدا منفعلاً صوته به رعشة وحشرجة، كان يصافح باليسرى، استعدت ما قاله الدكتور سامح همام عن تأثر العصب الواصل إلى اليد اليمنى، قال إنه اطمأن عندما رأى الأستاذ يحرك أطرافه، لكن الأمر سيحتاج وقتاً.

أعود إلى أوراقى التى كتبتها فى الأسبوع التالى فأجد ما نصه:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالإثنين أغسطس 31, 2009 6:25 pm

«اليوم صباح الأربعاء..

أفكر فى يده اليمنى، فى بطء حركتها، تلك اليد التى حفرت نهراً للإبداع العربى، اليد التى كتبت الثلاثية والحرافيش وأولاد حارتنا، أتأمل لون الجلد الغامق الذى لم أعرفه فى اليد التى قبلتها مراراً أفكر فى رقاده، فى أيامه بعد الشفاء، أثق أنه سيتكيف مع الظروف الجديدة، تماماً كما تكيف مع ظروفه بعد أن ثقل السمع وكلّ البصر، مع علمى أنه لا يغير عاداته إلا بصعوبة شديدة.. أحلم الآن بتلك اللحظات التى أتعجلها، عندما أصحبه كعادتنا ونجوس خلال حوارى القاهرة القديمة نسعى خلال الزمن العتيق».

لحظات عودته إلى الكتابة حلت بعد أربع سنوات من العلاج الطبيعى اليومى، عندما مال علىّ ليُسر إلى قائلاً:

«اليوم تمكنت من الكتابة دون أن أنزل عن السطر..»

خلال تلك السنوات الأربع التالية للحادث، رتب أوضاعه، ونتيجة إرادة داخلية قوية تكيف مع الظروف الجديدة. ليس نتيجة الحادث فقط ولكن نتيجة التقدم فى العمر والوهن، لقد نالت الشيخوخة من بصره فلم يعد يستطيع القراءة، عرضنا عليه المساعدة، لكنه لم يحملنا من أمرنا نصباً، رتب مع رجل طيب مجيئه اليومى إليه فى الصباح ليقرأ له لمدة ساعة أهم الأخبار فى صحف الصباح، القومية والمعارضة،

أما المقالات والنصوص الأدبية المهمة فيقرأها عليه الأصدقاء فى جلساتنا الليلية والتى أصبح لها ترتيب خاص بالنسبة لى، اعتدت أن أقرأ له الشعر القديم، الذى يحبه واعتاد أن يفتتح به القعدة «عشان تحلو»، أى قبل أن يكتب أو يقرأ. أقرأ له بصوت مرتفع ما أعجبنى من شعر القدماء، وأفاجأ أحياناً به يكمل الأبيات من ذاكرته، وقد دونت جميع القصائد التى اتضح لى أنه يحفظها واعتبرتها بمثابة مختاراته.

أحياناً أقرأ عليه مقطوعات من النثر، ويلفت نظرى ملامحه أثناء تركيزه الإصغاء. وقد يعلق فى نهاية النص برأى ثاقب، إذا كان الزمن قد نال من حاستى السمع والبصر فإنه لم ينل من الذهن الذى مازال حاداً. نافذاً، أما الذاكرة فمدهشة.

أحياناً يثير أحدنا موضوعاً ما، ويطلب رأيه، فيجيب بكلمة أو كلمتين عابرتين، على سبيل المثال، سألته عند رأيه فى أحداث سبتمبر بعد عام تقريباً من وقوعها فقال لى فى البداية:

«وهل يحتاج الأمر إلى رأى؟»

ولما كررت عليه السؤال قال: «إنت شايف..»

سكت انتقلنا إلى موضوعات أخرى، وإذا به بعد حوالى نصف ساعة يميل إلى الأمام، يشير بإصبعه، هنا نصغى كلنا، ندرك أنه سينطق ما يهمنا، ما يعبر عن رأيه، يقول: «شوف، بالنسبة لسبتمبر أظن أنه لم يقع حادث آخر بعلاقات الشرق والغرب مثل هذا الحادث، الذين ارتكبوه أساءوا إلى الإسلام أبلغ إساءة، وسبقه سلوكيات الـ«طالبان» التى أسأت أيضاً للإسلام وصورته، بحجة أننا بحاجة إلى جهد كبير لنعود إلى الوضع السابق على سبتمبر»، يصمت قليلاً ثم يقول:

«لا أظن أن الوضع سيعود كما كان.. مازلنا فى بداية مرحلة لم تتحدد معالمها ولا ندرى نهاياتها».

أحياناً، تثار مناقشات حول موضوعات أدبية، أو سياسات داخلية أو خارجية، يكفى أن يصغى ويستوعب لينطق بالحكمة، مازالت قدرته على توليد النكتة فى ذروتها، وأسبوعياً يجعلنا نضحك من الأعماق بعد قفشة مفاجئة، مباغتة لا نتوقعها، والقفشة فن مصرى دقيق ينتمى إلى زمن جميل، عندما كانت المشاكل العامة أخف وطأة، وكانت الأوقات الجميلة تمضى مع الصحبة المقربة، والدنيا صافية. نجيب محفوظ من أمهر ملوك القافية والقفشة وكلا الفنين يعتمد على سرعة البديهة والقدرة الحادة على السخرية.

بعد أن تسلم الشيك المليونى من إبراهيم المعلم، سكت قليلاً ثم قال:

«تعرف أنا بفكر فى إيه دلوقتى؟»

تطلعنا صامتين، قال:

«بفكر أهرب..»

وانفجرنا بالطبع ضاحكين، كانت أخبار الذين اقترضوا الملايين، وبعضهم المليارات تنشر يومياً فى الصحف، هربوا بأموال المودعين، أموال الغير، ودعابة محفوظ لكم بدت نافذة، موحية، موجعة.

فى مرة أخرى، كنا نتحدث عن راقصة شهيرة بمناسبة تصريحها أنها تنوى التقاعد، بعد لحظة صمت قال:

«ابقى طلعها فى الذخائر..»

الذخائر سلسلة أشرفت عليها وكانت تصدر عن هيئة قصور الثقافة، قدمت فيها نصوصاً مهمة من التراث العربى، تتميز النكتة المحفوظية بالذكاء، والثقابة، الدقة وشحنة السخرية العالية، مجرد استعادة هيئته لحظة إلقائه النكتة أو توليدها أو نطقه القفشة يجعلنى أبتسم..

إن متابعة ملامحه أثناء الجلوس معه تمنحنا خريطة دقيقة واضحة للعواطف الإنسانية، دائماً كنت أحترم صمته. قبل الحادث والتقدم فى السن، كان يجلس مفرود القامة، متطلعاً إلى فوق، على وجهه ذلك التعبير الذى يستدعى الوصف المصرى المتلخص فى كلمة واحدة بالغة الدلالة عندما نقول عن إنسان إنه «طيب» يبدو سمحاً رقراقاً ذاهباً إلى بعيد وهو قريب، الآن مع التقدم فى العمر، خمر الجسد، انحنى قليلاً، يطول صمته، مستغرقاً فى ذاته، خلال جلستنا معه أحرص على ألا ندخل فى أحاديث جانبية، عندما يشعر أن الذين معه انصرفوا عنه، ولا يستطيع الإصغاء إليهم يتداخل فى نفسه، يمضى إلى أزمنته الخاصة،

لقد استطاع بعد الحادث تكييف ظروف حياته على كل المستويات: لقاء الأصدقاء، الكتابة، التعايش مع المرض، إلا أن الشىء الوحيد الذى لم يستطع أن يستأنفه هو زياراته المنتظمة إلى الحسين، الضريح والمكان كله حيث تتوزع أيامه، كان قبل الحادث يمضى إليه إما منفرداً، أو بصحبتى، لكن بعد أن فرضت عليه الحراسة، وصارت حركته محدودة وفقاً لشروط معينة، حيل بينه وبين الحبيب، مثوى الشهيد القاهرى، والمكان الذى يمثل المأوى والركن الركين لروحه، لذلك لم يكن غريباً أن يردد اسم الحسين مرات فى فترات غيابه عن الوعى، وأن يوصى بالصلاة على روحه فى المسجد الذى أمضى عمره كله يطوف به، إنْ بحضوره أو بغيابه، لذلك أوقن أن احتضاره بدأ منذ عام أربعة وتسعين، بعد محاولة الاغتيال الآثمة، التى نشأت عنها ظروف حالت دونه ودون مأواه الأول.

هل يمكن عودة محفوظ الآن إلى المكان الذى أحبه وتعلق به واستلهمه فى كل أعماله، هل يمكن عودته إلى الحسين من خلال مشروع المزارات المحفوظية الذى حددت فيه كل أماكنه الحميمة والتى أخبرنى بها خلال جولاتنا الصباحية المبكرة، بينها جولة مسجلة بالصوت والصورة عام ثمانية وثمانين، قامت بها الإذاعة البريطانية، القناة الرابعة؟ ويضم المشروع أيضاً الأماكن المرتبطة بشخصيات عالمه الروائى، إننى التقى كثيرين يسعون بحثاً عن زقاق المدق والثلاثية وموقع بيت أحمد عبدالجواد، وكثيراً ما يسمعون معلومات مغلوطة ممن لا يعرف..

إذا كانت لغة المال وتقديس المال هى السائدة الآن، فأقسم أن هذا المشروع سيكون له عائد مادى عندما ينتظم القادمون فى إطار المزار المحفوظى الذى حددته تفصيلاً، ويوجد أمام محافظ القاهرة، ما يحتاجه فقط التنفيذ، ما أتمناه أن يتم افتتاح متحف محفوظ العام المقبل، فى الذكرى الرابعة إذا قدر لنا أن نشهدها، أن يفتتح المتحف فى بين القصرين بدلاً من الموقع المختار له الآن ويقع على حدود الباطنية التى لم يتعامل معها محفوظ، ولم تربطه بها علاقة، أقول متمنياً: «ليت لو تم ذلك!»
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالإثنين أغسطس 31, 2009 6:33 pm

مسجد الطنبغا الماردينى«١-٢» «لو كشف عنى الغطاء ما ازددت يقيناً»


لطول ما أمضيت من وقت، ماشياً أو قاعداً بمقاهى الطريق أو فى المساجد والمدارس صار بينى وبين الواجهات والنوافذ والأبواب والنقوش صلة، من هنا كان صميم حزنى على سرقة تلك الأجزاء الرائعة المنتقاة بعناية والتى تعاقب اختفاؤها خلال العام الحالى، هذه السرقات كما ذكرت لم تحدث فى زمن المجاعات والأوبئة، فى أشد العصور انحطاطاً، إن شكوكى تتجه إلى دولة خليجية صغيرة أعلنت عن إنشاء أضخم متحف للفن الإسلامى فى الشرق الأوسط، من أين لها بالمعروضات وليس لديهم أى تراث مما يعتد به، إن التجرؤ على الأماكن الدينية بهذا الشكل ظاهرة غريبة على المجتمع المصرى الدافع إليها من خارجه أما التنفيذ فمن الداخل ومن خبراء فنيين، ما أتمناه مراقبة هذا المتحف وما سيعرض فيه حتى لو بعد سنوات عديدة، لقد أجرى النائب العام تحقيقاً دقيقاً ولم يغلق بعد، لعل وعسى المستقبل يحمل لنا أمراً.

أبتعد عن قبة الشيخ سعود الخضراء، زاوية صغيرة، طلاء جدرانها أخضر، للناس فى هذا الشيخ المجهول اعتقاد.

أعبر أمام بيت كبير، جميل، بيت مصطفى سنان، لم ألمح أحداً فيه، وسمعت من يقول إن بداخله ساكناً وحيداً لا يظهر أبداً، بيت آخر لعائلة المهندس. فى القاهرة القديمة العديد من هذه المبانى المهجورة، المغلقة، أسميها عمارة الصمت، أطيل التأمل فى واجهاتها، أحاول تخيل الحيوات التى ضجت بها يوماً، من هذه العمارة مدرسة عبدالرحمن كتخدا بشارع قصر الشوق لايزال المبنى قائماً بنوافذه المستطيلة، بعضها مغلق والآخر مفتوح منذ حوالى أربعين سنة منذ أن أغلقت المدرسة أبوابها ونسيت، لا أعرف إلى من تعود ملكيتها، لا أشغل نفسى بالتساؤلات القانونية، إنما أتوقف أمامها محاولاً الوصول ولو إلى لحظة من لحظاتى أنا التى مررت بها هنا، أنا كنت هنا، أمضيت فى هذه العمارة المهجورة الآن ثلاث سنوات من طفولتى قبل أن أنقل إلى مدرسة الجمالية الابتدائية، كانت المرحلة الابتدائية أربع سنوات.

أرى بوضوح لحظة أن اصطحبنى أبى إلى المدرسة ليسلمنى إلى إبراهيم أفندى، سكرتير المدرسة، كان يرتدى «جاكت» غامقاً فوق جلباب وطربوش أحمر، عيناه تحدقان صوبى من العدم، كأنه يتطلع إلىّ الآن، لحظة غير متصلة بما قبلها أو بعدها، ثابتة، هكذا الصور المتبقية فى الذاكرة، كأنها صور فى جداريات مدفونة رغم أنها ماثلة فى ذاكرة حية.

كان ذلك عام واحد وخمسين، كان المكان قوياً، تطل علىّ وجوه المدرسين الذين عرفت على أيديهم أسرار الحروف، الذين فتحوا لى عوالم وأكوان المعرفة، الأستاذ رضوان الأصلع عاشق أم كلثوم، كان يغلق باب الفصل ويبدأ الغناء، يغنى لنا «مصر التى فى خاطرى وفى دمى»، مازال صوته فى سمعى، الشيخ مصطفى المهيب بطلته، وسعدالله أفندى صاحب القدرة على الحكى، لا أذكر الناظر، ولا الزملاء، فقط واحد كان مستطيل الوجه لكن اسمه راح منى، وقت الظهيرة تعبق المدرسة برائحة طبيخ، كنا نتناول وجبة غذاء من لحم وخضار ومرق، قررها الدكتور طه حسين لجميع المدارس، ثم تحولت إلى وجبة جافة من بيض مسلوق وجبن رومى وحلوى طحينية وأرغفة، أكلت هذا كله فى تلك العمارة التى تقف الآن صامتة، تطالعنى بنوافذها الخربة، هل أتطلع إلى الجدران أم إلى أيامى؟ أوقاتى التى تتسع المسافة بينى وبينها، أيامى الموزعة على نواصى القاهرة القديمة، على دروبها وحواريها، لم نسكن الدرب الأحمر لكننى ترددت عليه بصحبة الوالد رحمه الله، لزيارة ضريح السيدة فاطمة النبوية، أو بعض الأقارب.

ألمح سبيلاً عثمانياً فى حالة رثة، هنا بعد بدء درب التبانة يختفى مسجد ومدرسة ألجاى اليوسفى، كذلك تركت خلفى حمام الأمير بشتاك وهو مغلق ولا يعمل، واجهته لاتزال تحمل زخارف جميلة، إنه صاحب القصر الكبير بشارع المعز المواجه للمدرسة الكاملية، ومسجد ومدرسة برقوق، وهذه العمائر كلها سأتوقف مطولاً عندها بعد أن أصل إلى بين القصرين، إلى منطقتى الحميمة التى شببت بها.

هنا بالقرب من حمام بشتاك أقام محمود شكوكو، كان نجاراً مع أشقائه، من هنا بدأ رحلة الفن، وفى تقديرى بدون مبالغة أنه لا يقل موهبة عن شارلى شابلن وقد حقق شهرة واسعة لا يحلم بها الباحثون عن الشهرة الآن، إنه الوحيد الذى صنع له المصريون تماثيل من الجبس، كانت تتم مقايضة الواحد منها بزجاجة فارغة، زجاجة كانت معبأة بالزيت، بالشربات، هذه المقايضة كانت مألوفة فى القاهرة القديمة، خاصة استبدال الملابس القديمة بالأوانى المنزلية وكان يطلق عليها «روبابيكيا»، تماثيل شكوكو لم ينحت مثلها لكبار الفنانين أو السياسيين، كان الباعة يصيحون «شكوكو بالأزايز.. أى الزجاجات».

أتذكر ذلك فأعجب، التماثيل كانت على هذا الحضور الشعبى الواسع، الآن تم إغلاق قسم النحت فى كلية الفنون الجميلة بعد سريان ثقافة التشدد التى تقف ضد النحت باعتباره محرماً، إنه التقدم إلى الوراء!

عند نقطة من الطريق تبدأ مئذنة الطنبغا المارد فى الظهور، شيئاً فشيئاً تلوح، كما ذكرت فإن العين لابد أن تقع على مئذنة أو قبة طوال المسار من ميدان الرميلة وحتى ميدان الجيش بعد اجتياز شارع الحسينية وصولا إلى العباسية، فلأتمهل، إذ إننا نقبل على بناء فريد، هنا لابد من ملاحظة، لا يوجد مسجد فى القاهرة يشبه الآخر، لا فى العناصر ولا فى النسب، ربما ملامح الشخصية العامة، لكن كل مسجد يمكن اعتباره حالة خاصة، فلأتمهل، إن التقدم نحو شيخ جليل أو أثر عتيق له أصول وآداب، منها الخطو البطىء والإطراق وأحياناً الاستئذان.

الطنبغا الماردينى

كثيراً ما أطابق المكان على المكان، بمعنى أننى أقف عند نقطة معينة وأتساءل، ماذا كان يوجد هنا قبل مقدار معين من السنوات، فلأسترجع الحال قرب نهاية الدولة الفاطمية، كان باب زويلة يؤدى إلى خارج القاهرة، من جهة الجنوب المؤدية إلى الفسطاط أو مصر العتيقة كما يسميها القاهريون حتى الآن وينطقونها «مصر العتيئة..».

هذا المكان كان فراغاً بعده فراغ، فقط بعض الأماكن التى استخدمت للدفن، مقابر. أول من شيد بناءً خارج المدينة الصالح طلائع ومازال مسجده قائماً وقد خضع لعملية ترميم فى إطار مشروع القاهرة التاريخية، وفى تقديرى أنه ترميم سيئ لم يراع التوازن بين عتاقة العمارة وما يجب أن تكون عليه حيث تم طلاء الجدران بجص أبيض تتخلله النقوش التى يقارب عمرها الألف سنة، لن أستبق الخطو، فلأركز فى الطنبغا الماردينى الذى أقترب منه، بعد أن بنى الصالح طلائع مسجده انتشر العمران، فى زمن الناصر محمد بن قلاوون تقرر بناء مسجد لصفيه الطنبغا الماردينى، عندئذ أصدر السلطان أوامره إلى النشو فانطلق هذا لينزع ملكية المنازل والوكالات، أجبر أهلها على بيعها بثمن بخس، يقول المقريزى إنه ظلم الناس ولم ينصفهم فى أثمانها.

اسمه النشو، ناظر الخاص، أى المسؤول عن إدارة أملاك السلطان، اسمه الكامل شرف الدين بن عبدالوهاب النشو، سوف أتوقف أمامه مطولاً لأنه إحدى الشخصيات التى لفتت نظرى بشدة فى العصر المملوكى عند معايشتى للمقريزى فى موسوعته «السلوك فى معرفة دول الملوك» والذى حققه محمد مصطفى زيادة، وأعادت طبعه دار الكتب مؤخراً، النشو إحدى الشخصيات التى استلهمت منها شخصية الزينى بركات، الناقد الأدبى الوحيد الذى أدرك ذلك صديقى محمد السيد عيد فى دراسته الفريدة التى نشرها فى مجلة الثقافة وقت تولى الأستاذ عبدالعزيز الدسوقى رئاسة تحريرها، أعاد إلى المصادر المملوكية التى تعاملت معها لاستعادة العصر المملوكى، سوف أتوقف مطولاً أمام شخصية النشو بعد خروجى من مسجد الماردينى، إنه نموذج فريد لمن يقترب من السلطان ويتقرب، أمثاله مازلنا نرى أشباههم ولذلك تعلقت بالعصر المملوكى لأنه مازال مستمراً حتى الآن ولى فى ذلك رؤية سأدلل عليها.

من هو الطنبغا الماردينى..

إنه الساقى، أى المسؤول عما يشربه السلطان، وتلك مكانة يحظى صاحبها بثقة تامة، تماماً مثل الجلبى (الحلاق) و«الجاشنكير» المسؤول عن تذوق الطعام الذى يتناوله السلطان قبله بوقت كاف للتأكد من خلوه من السم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالإثنين أغسطس 31, 2009 6:32 pm

لم يكن الطنبغا مقرباً فقط، إنما كان محبوباً من السلطان وهذه مرتبة تجب أى كفاءة أو موهبة، الأساس فى النظام المملوكى القرب وليس القدرة، إنها الشخصنة، وحتى الآن مازال المصريون يصفون فلاناً بأنه «بتاع» الوزير، أو «بتاع» سيادته، كلمة بتاع أى ملكه، أى مملوكه، هذا سار موجود حتى الآن فى جميع المؤسسات، ولله فى خلقه شؤون.

السلطان الناصر أنعم على الطنبغا بالإمارة، ولم يكتف بذلك إنما زَوَّجه ابنته، فلما مات السلطان وتولى بعده ابنه المنصور أبوبكر ذكر أنه وشى بأمره إلى الأمير قوصون وكان أحد مراكز القوة فى الدولة، وقال لقوصون: خد بالك أن السلطان سيمسكك، هنا نلاحظ أهمية الفعل (قال له...) فى الدولة المملوكية، الكلام فاعل، فهو طريق الوشاية أو الإفضاء بالأسرار أو لتأليب الأقوى على القوى أو للإيحاء، بالطبع يلزم أن يكون فم المتقول قريباً من أذن المتمكن القوى، المهم أن قوصون أخذ حيطته وتحيل - من الحيلة - بناء على كلام الطنبغا الماردينى رغم أن الطنبغا كان مقرباً من المنصور أبوبكر تماماً كما كان مقرباً من والده، تمكن قوصون من السلطان المنصور وقتله قرب قوص، هنا دبت الفتنة، وحضر الأمير قطلوبغا من الشام، وبدأ شغب الأمراء مع غياب شخصية قوية، واتخذوا موقفاً ضد الأمير قوصون وكان الطنبغا الماردينى هو المحرك لهذا كله، وعند وصول الأمير قطلوبغا من الشام تقدم الطنبغا منه وقبض على سيفه، يقول المقريزى:

«ولم يجبر غيره على ذلك، فقويت بعد هذه الحركات نفسه، وصار يقف فوق التمرتاشى، وهو أغاته (أى أستاذه ومعلمه)، فشق ذلك عليه وكتم فى نفسه، إلى أن ملك الصالح إسماعيل».

مع اعتلاء الصالح إسماعيل الملك صعد نجم التمرتاشى، وصار الأمر له، هذه إحدى سمات الدولة المملوكية، انقلاب الحال إلى نقيضه مع تغير موضع الشخص من الشخص، فالأمر كله منطلق من الشخصنة، بدأ التمرتاشى يكيد للطنبغا حتى صدر قرار بنقله إلى حلب، مات فيها سنة أربع وأربعين وسبعمائة.

لا يذكر المقريزى كيف مات، فقد يعلق ذاكرًا أوصافه قائلاً: وكان شابًا رقيقًا، حلو الصورة، لطيفًا، معشق الخطوة (أى يتمايل فى سيره)، كريمًا، صائب الحدس، عاقلاً.

أكاد أوقن أنه مات مسمومًا، كما يشغلنى سؤال آخر حول مصير زوجته، ابنة السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وهو أحد أعظم وأقوى وأطول حكام مصر مدة، مصادر التاريخ لا تنبئنى بشىء، هاأنذا أقف عند مدخل مسجده الجميل الفريد، الذى يحوى عنصرًا لم أعرف مثله.

المسجد

لعله من أجمل المداخل فى العمارة القاهرية، مدخل لا يتصل مباشرة بالطريق، إنما تجويف ضخم، مرتفع على جانبيه ما يمكن اعتباره دكتين من الحجر، الباب فى عمق المدخل تعلوه زخارف من الأحجار، بيضاء وسوداء، بالطبع أتحدث عن المدخل البحرى وهو الرئيسى، لأن المسجد به مدخل آخر قبلى يؤدى إلى الميضأة، عندما أصل إلى العتبة ألمح أشجار حديقة تتوسط الصحن، الأشجار تضفى عليه حضورًا خاصًا، وللشجر منزلة خاصة فى هذا المسجد، لأننا سوف نرى بعضها مرسومًا على الجدران.

بدأ الأمير الطنبغا الماردانى سنة ٧٣٨هـ (١٣٣٧م) فى بناء الجامع، وكما أشرت شهد التمهيد لبناء الجامع عملية نزع ملكية جرت فيها تجاوزات، وكان القائم على ذلك النشو، وما أدراكم ما النشو؟، افتتح المسجد يوم الجمعة ٢٤ رمضان سنة ٧٤٠هـ (مارس ١٣٤٠م) هذا ما دونه المقريزى، الذى يذكر ملاحظة طريفة وهى أن خطيب الجمعة لم يحصل على أى مقابل، ولا حتى هدية، المثير هنا تناقض الوسائل مع الأهداف، فمعظم السلاطين والأمراء لجأوا إلى المظالم والنهب من أجل بناء المساجد التى يتقربون بها إلى الله سبحانه وتعالى، من الوقائع الغريبة التى أذكرها، ما يتعلق بمسجد السلطان الغورى، الذى استولى على مواد كثيرة منها أعمدة وألواح رخام لبناء مسجده، عندئذ أطلق عليه المصريون «المسجد الحرام»، فى إشارة ساخرة إلى مظالم السلطان لبناء مسجده.

أعود إلى مسجد الطنبغا الماردينى، صمم على نظام المساجد ذات الإيوانات الأربعة، تتخللها أروقة يتوسطها صحن مكشوف، أحاول استيعاب زخارف الواجهة والخط الذى كتب على الرخام الملبس بالحجر وعليه ما نصه:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالإثنين أغسطس 31, 2009 6:32 pm

(بسم الله الرحمن الرحيم «إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر»، وكان الفراغ من هذا الجامع المبارك فى شهر رمضان المعظم سنة أربعين وسبعمائة).

أرفع البصر إلى أعلى الجدران، الشرفات أو العرائس واضحة، لكل منها ستة حدود، وبين بعضها يرتفع نموذج مصغر لمئذنة على هيئة المبخرة، هذا عنصر معمارى لم أعرفه إلا فى هذا المسجد، نفس هذه الوحدة رأيتها فى البرتغال فوق المنازل، تقريبًا بنفس الشكل، هذا التكوين هناك أحد آثار الحضور العربى الإسلامى.

العنصر الذى أثار عندى هزة ومازال، ذلك السياج الخشبى، هذا الصرح من الجمال، من الدقة، النمنمة، الرمزية، المعانى المستترة، والله إننى لأعجب، كيف لبلد فيه مثل هذا الجمال ولا يخرجه إلى الناس عن طريق الصورة والنمذجة، غير أن عجبى يحل مكانه كمد يدمى الروح عندما أعيش يومًا تترك فيه الأمور مهملة حتى ليسرق ويختفى ما لا يمكن تعويضه من هذا المسجد الفريد، أحمد الله وأشكره أن اللصوص المتخصصين لم تمتد أياديهم إلى هذا السياج، فلأرجئ أحزانى قليلاً حتى أصل إلى المنبر المنكوب، فلأتوقف أمام السياج.

لا أعرف آخر يشبهه إلا ذلك الموجود بالأزهر، لكنه ليس بهذه الدقة وذاك التنوع، بالطبع، دائمًا أسأل: ما معناه؟ لماذا هنا بالذات؟ وماذا تقول هذه القطع الخشبية داخل المربعات المتجاورة جنبًا إلى جنب، خمسة صفوف رأسية، المسجد أربعة إيوانات، بالطبع أغزرها زخرفة وأثراها القبلى، الشرقى، المتجه صوب الكعبة. المصمم، الفنان قرر أن يمد هذا السياج ليغطى الإيوان كله وفتح أبوابًا تتخلله يمكن المرور من خلالها إلى الإيوان الحاوى للأعمدة الرشيقة والمحراب المنمنم، والمنبر المنهوب الآن، مرة أخرى فلأبق فى مواجهة السياج، فى البداية يمكن أن يراه الإنسان فيمر به بسرعة، مجرد جدار، حاجز من الخشب، ويمكن أن يتمهل فتلفت نظره أشكال الخشب المنحوت، ويمكن أن يدقق فيبدأ فى الاطلاع على المخفى، على الأسرار.

بقدر ما يكون الإنسان عليه بقدر ما يدرك، ما ينهل منه، ولا حدود للإيغال تسعة أقسام متجاورة يفصل كلاً منها عن الآخر عمود، فى تقديرى أنه مجلوب من مبان أقدم، أقرأ الأعمدة من تيجانها تلك التى أراها تنتمى إلى العصور المصرية المتأخرة، كل قسم من خمسة مربعات متساوية.

لنبدأ من أسفل:

الأول قطع الخشب مائلة متقاطعة، تكوّن شبكة من المربعات المائلة.

الثانى من أعمدة صغيرة مستقيمة بينها مسافات من الفراغ متساوية، كل عمود منها يبدأ مربعاً ثم ينتقل إلى الاستدارة، عليه حَفْر دقيق، المربع المجاور الثالث ترديد للأول فوقه فى الصف الثانى المربع المغاير، هكذا يتوالى الصعود حتى الصف الخامس، من خلال هذا التبادل الحميم بين المائل والمعتدل تنشأ حركة دائرية، الإشارة هنا إلى حركة الوجود.

ما من ثابت أبداً

كل شىء يتحرك، يمضى، ينقضى، يتجه صوبه، نحوه، إليه، يفنى فيه، كل شىء مسافر، راحل، لو صار ثبات لبدأ عدم، هذا التبادل إشارة إلى كل المخلوقات، على مستوى النوع أو الفرد، هذا يروح، ذاك يجىء، لكن الوصول شروع فى الرحيل أيضاً.

لا شىء يبقى أبداً

كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال

هذا هو..

أقف عند أول السياج، أميل برأسى، أسدد البصر إلى امتداده فأراه مستمراً وكأنه لن ينتهى، لكن لا يمكن إدراك النقطة التى يتوقف عندها، هكذا وفق الفنان المقتدر بين المحدود واللا محدود.

أتراجع قليلاً فأرى السياج فى مكانة الحجاب.

حقاً.. إنه حجاب، حجاب بين الداخل والخارج، بين الظل والنور، بين الفراغ والامتلاء، أثناء وقوفى فى الصحن يُحجب عنى ثراء الداخل، وعند دخولى يُحجب عنى فوضى الخارج وضجيج الموجودات، إنه ليس بصامت، إنه حوار، إنه معانٍ شتى، لذلك أتوقف طويلاً، أرحل فى وقوفى، وأقف فى رحيلى من خلال هذا الحجاب، أتطلع إلى أعلى، تتحول الزخارف إلى منمنمات بالخشب، يرق حجمه، وتدق الأشكال، مثلثات ودوائر تتصل برهافة وكأنها تحلق، بينما تبلغ بعض النقوش حد الهمس، الزخارف تشير من بعيد، مجرد ترديد، ترجيع لأصل لا يمكننى الوصول إليه، عندئذ يبلغ بى التدقيق حداً لا أقدر على احتماله، أردد «لو كشف عنى الغطاء ما ازددت يقيناً».

ليس وجودى كله إلا حجباً مشابهة، حجاب وراء حجاب، سياج يليه سياج، أستعد للعبور إلى الداخل، الحركة هنا خاصة جداً، لا مثيل لها فى أى معمار آخر، أتأهب للمضى نحو المحراب، نحو المنبر المنكوب ولهذا تفصيل مروع، أليم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالأربعاء سبتمبر 02, 2009 4:43 pm

مسجد الطنبغا الماردينى«٢-٢» معراج الأنفاس فى محراب الطنبغا الماردينى


علاقتى بمسجد الطنبغا الماردينى ترجع إلى أكثر من خمسة وخمسين عاماً، صليت فيه الجمعة طفلاً بصحبة الوالد -رحمه الله- وشقيقى إسماعيل عند توجهنا إلى القلعة لزيارة أقارب.. رحلة طويلة اكتشفته خلالها على مهل، فى كل زيارة أرى ما لم أعرفه من قبل، ينطبق هذا على كل عمارة تعلقت بها، ولو امتد بى العمر سنوات عديدة، ولو استمرت قدرتى على التردد والتأمل، فلن ينفد ما يمكن أن أقف عليه، كل عنصر مفرد، لا يتكرر، كل محراب قائم بذاته، لا نجد له نسخة فى مكان آخر، الخطوط العامة متقاربة لكن التفاصيل جد متباعدة.

بعد اجتياز السياج أو الحجاب، أتجه إلى المحراب، رغم حالته السيئة إلا أن جماله الكامن يذكّرنى بنمنمة محراب قبة قلاوون، المحراب هو الخطوة التى لا بعدها أخرى، إنه الباب الرمزى المؤدى إلى اللامتناهى، والذى لا يؤدى إلى شىء. عرفت مصر القديمة الباب الوهمى، كان يُرسم أو يُنحت فى المقابر ويختص بعبور الروح الحاجز غير المرئى بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، دائماً فى دور العبادة خطوة لا خطوة بعدها، قد تكون غرفة قدس الأقداس، أو مذبحاً، أو محراباً، وكلما دنونا من تلك المرحلة الأخيرة ازدادت الرموز تركيزاً، والزخارف رهافة، وتعددت الإشارات والدلالات.

اعتدت الجلوس أمام المحراب والتطلع إليه، أعرف من المقريزى اسم شاد العمائر، الذى أشرف على عمارة المسجد، اسمه السيوفى، لكننى لا أعرف الفنان الذى صاغ المحراب، وصمم زخارفه.

المحراب..

يمكن إدراكه فى جملته، ويمكن التوقف أمام كل جزء فيه، هذه قاعدة تحكم الفن الإسلامى، العلاقة بين الجزء والكل، كل جزء قائم بذاته، لكنه متصل بالآخر، كل جزء مهما دق، مهما كان ضئيلاً له معنى مستقل بذاته، متصل أيضاً بما عداه، المحراب ليس كلاً واحداً، إنه منقسم إلى وحدات تحيط تجويفه، نبدأ من أسفل، ما يلى الأرض مباشرة.

مستطيلات من الرخام، تتبادل مضمونها مثل الموسيقى، نغم يخفت، والمجاور يعلو، أو العكس، مستطيل أبيض، النقش منه فيه، المستطيل المجاور من زخارف رخامية، قطع من الرخام الملون فيها أسهم، ودوائر ومثلثات، كل شريط يحوى زخرفة لا تتكرر إلا فى الجزء المقابل لها، لابد من التباين، من الاختلاف، لو تشابه كل شىء لن يكون شىء.

كل جزء يمكن النظر إليه بمفرده، وأيضاً فى إطار علاقته بالكل، تماماً مثل الثانية والدقيقة والساعة واليوم والشهر والسنة.

يلى هذه الأشرطة المستطيلة مساحة بيضاء للعبور، يليها جزء منقوش، منمنم بما يوحى بالنجوم، نواجه مجرة من التشكيلات الدقيقة، سوف تتكرر فى مساحة تالية، الحركة هنا ارتقاء، ألمح قطعاً من الفيروز الأزرق، والمرجان الأحمر، نستمر فى الصعود.

زخارف نباتية، أعمدة صغيرة زرقاء قرب النهاية، هنا يلوح اللون الأزرق، لون السماء، لون الأبدية، اللانهاية، ثم نرى آية قرآنية، سورة النور، ظهور القرآن يعنى الدنو من الحد الأخير، هكذا الطريق إلى الله، مراحل ومجاهدات.

الجزء الأخير من المحراب يسميه المعماريون الطاقية أو الحنية، ولكننى أفضل مفهوم العين، إن التجويف يشبه مقلة العين، عين واحدة لواحد فقط.

«إن الله يسمع ويرى»..

هذا الجزء رمز للعين، للعلو، النقوش غاية فى الدقة، فعند هذا الارتفاع الشاهق تكون سماء ما بعدها سماء، هكذا يبدو لى المحراب، منه أتحول إلى المنبر المنكوب، المنهوب، الذى مرت عليه حوالى ثمانية قرون، لم يمسسه أحد رغم المجاعات والأوبئة، لم يحدث ذلك إلا فى زمننا الذى قُدّر لنا أن نشهده، هذا العام بدأت الأيدى المحترفة الخبيرة تمتد إلى محتويات مساجدنا المكشوفة بلا حماية، عندما قدّمت هذا المسجد فى برنامج تليفزيونى بقناة دريم، توقفت أمام المنبر مدة زمنية طويلة، ما شرحته، ما قرأته اختفى الآن، إذن فلأحاول استعادته من الذاكرة، تماماً كما جرى أمرى مع المسافرخانة، ويبدو أنه قَدَر، أن نستعيد ما يختفى عبر الذاكرة التى ستندثر بدورها يوماً.

المنبر..

أقول لنفسى دائماً، إننى لا أواجه محراباً أو منبراً، إننى أقف أمام معنى، رمز، شفرة، رسائل خاصة لا يفكها إلا من يفهم ويعرف ويقدر على التلقى، كنت كلما جئت إلى المحراب يمنحنى جديداً، يكشف لى عن أمر بقدر تركيزى وصفائى عند مواجهته، إنه من خشب، وهل هذا اكتشاف؟، إنه من خشب، لكن ماذا أبدع الفنان المجهول من هذا الخشب؟

جانبا المحراب تلخيص للأكوان، مجرات وسديم وحركة دائرية إلى الأبد الأبيد، أبرز ما نراه، الطبق النجمى يتكون من اثنتى عشرة وحدة، كل منها تقترب من شكل المثلث، متجاورة، ينتظمون حول مركز نجمى الإشعاع، كل شىء يدور حول مركز، لابد من مركز، لن تقوم الدائرة بدون مركز، مثل المحيط، لن يكون محيطاً بدون نقطة الماء، المركز أحياناً يكون ظاهراً، وأحياناً يتوارى، يختفى، نراه بالقلب، بالحدس، بالإيمان، داخل كل وحدة صغيرة زخارف دقيقة كأنها الهمس،

كأنها السر المكنون، الحواف من عاج أبيض اكتسى صفرة مع الزمن، والحشو الداخلى من الأبنوس الأسود، ليل/ نهار، ظل/ ضوء، لا يكتمل ظهور الشىء إلا بنقيضه، لكم راح بصرى مع الخطوط، مع الزخارف، أكاد أصغى إلى أنفاس الراحلين الذين طعّموا، حفروا، حشوا، ذهّبوا، ولم يتخيلوا أن بعضاً من بنى جلدتهم سوف يعكفون يوماً على فك ما أبدعوه، وسرقته، ما أصعب المفارقة، لكنه الفرق بين زمنين، بين وقتين، الغريب أنها ليست السرقة الأولى، منذ حوالى قرن اختفت ثمانى حشوات من المنبر، وجدت طريقها إلى أوروبا،

وهناك اشتراها تاجر وجاء يعرضها للبيع فى القاهرة، فى هذا الوقت كانت لجنة حفظ الآثار العربية برئاسة هيرتس باشا النمساوى الأصل قد بدأت عملها فى ترميم الآثار شبه المنهارة، اشترت الحشوات بأربعين جنيهاً وأعادتها إلى المنبر، ثم جاء اللصوص الجدد بعد قرن تقريباً ليفكوا الحشوات ويبقى المنبر عارياً من الزخارف، يشبه الآن قفص الفراخ الردىء بعد أن كان نموذجاً وآية تدل على كثير.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالأربعاء سبتمبر 02, 2009 4:43 pm

للمنبر عندى منزلة خاصة، ليس ما يخص منبر الطنبغا الماردينى فقط، رغم أنه من أجمل ما رأيت، وقد اختار اللصوص ومن يقف وراءهم أجمل ما فى مصر، لكننى أعنى المنابر بشكل عام، هذا الجزء فى المسجد يعنى الارتقاء، الارتفاع المادى والرمزى، وهذا لا يكون إلا لذى علم أو صاحب مكانة، لكم جلست أمام المنابر، غير أننى أتذكر يوماً له منزلة خاصة يعود إلى عام ستة وخمسين، إنه الجمعة، كان العدوان الثلاثى فى ذروته،

كنا نسكن الدرب الأصفر. منزل مواجه لخانقاه بيبرس الجاشنكير التى تولى مشيختها ابن خلدون، كان المناخ بارداً مما يؤكد لى تبدل أحوال الطقس فى السنوات الأخيرة، حيث ندخل شهر ديسمبر الآن والحر فى أوجه، صحبنا أبى لصلاة الجمعة فى الأزهر «مع شقيقى إسماعيل»، وهناك أُشهدت لحظة يمكننى أن أصفها وأنا مرتاح الضمير بالتاريخية، إننى حذر جداً فى استخدام هذه الصفة لكثرة ما ابتذلت الآن.

رأيت الأزهر يموج بالخلق، لا أحد ينظم دخولهم، ولا جهة تدبر حشدهم، جاءوا من كل فج، هكذا تُستنفر الجماعة المصرية فى لحظات الشدائد وظهور الخطر الخارجى، كان الجو رمادياً، بارداً،

وهذا يستجلب الإحساس بالزمن، بالأزمنة الماضية، دائماً عند ظهور خطر ما أو ظلم ما، تتحرك الجماعة كأنها شخص واحد، إلى أين يذهبون، إلى المركز، إلى البؤرة، إلى الموضع الأهم، بالنسبة للقاهرة، لمصر، لا يوجد أجّل ولا أهم من الأزهر، الأزهر فى مجمله جامعة علم، وأيضاً ملاذ، هكذا كان طوال العصر المملوكى،

وتزايدت أهميته فى العصر العثمانى الذى شهد تحلل الدولة المصرية، كان الفقراء والمساكين وأبناء السبيل إذا لحقهم ظلم لا يجدون إلا الأزهر ملاذاً، حيث العلماء والشيوخ الأجلاء وطلبة العلم الذين كانوا يحتلون منزلة خاصة فىالمجتمع، كان الناس يقصدون الأزهر، ويخرج إليهم الشيخ الصالح المتصوف أحمد الدردير، يصغى إلى المظالم التى لحقت بهم وعندئذ يقول:

«تعالوا إليهم لنرد الظلم الذى لحق..»

يتقدم الناس إلى منزل الأمير أو الوالى العثمانى، وكان هدير الناس مما يحسب له هؤلاء ألف حساب، كان منبر الأزهر له معنى ودلالة رمزية أكبر، من فوقه يتم إعلان الجهاد ضد الغازى الذى يهدد الديار، وخلال ثورة ١٩١٩، وقف فوقه القمص سرجيوس خطيباً وهو من أشهر خطباء الثورة، وقف مع شيوخ الأزهر تحت شعار الثورة، الهلال يحتضن الصليب، أعظم صيغة للوحدة الوطنية التى تمر بعثرات منذ السبعينيات العجاف فى القرن الماضى، كان الأزهر مركزاً للحركة الوطنية،

ولعل الكثيرين لا يعلمون أن الحملة الفرنسية قررت شق طريق السكة الجديدة للوصول بسرعة إلى الأزهر، كانت المدينة القديمة عبارة عن سلسلة من الدروب والأزقة الضيقة، ن

فس القرار اتخذه الإنجليز بعد أكثر من مائة عام عندما فتحوا شارع الأزهر عام ألف وتسعمائة وثلاثين، كأحد الدروس المستفادة من الثورة، إذ كان لابد من تسهيل وصول المعدات العسكرية التى أصبحت أكبر حجماً وأكثر تعقيداً إلى مركز الثورة ومركز مصر الروحى، هكذا افتتح شارع الأزهر العريض مع شارع الأمير فاروق «الجيش فيما بعد»، ومُد فى الأزهر خط ترامواى رقم ١٩.

أدى ذلك إلى تمزيق المدينة القديمة، الدرب الأحمر فى ناحية والجمالية فى ناحية أخرى، هل كان جمال عبدالناصر يعى هذا الميراث الروحى، التاريخى كله عندما قرر الذهاب إلى الأزهر واعتلاء المنبر لإعلان الجهاد ضد العدوان الثلاثى، وأنه باق فى القاهرة، كذلك أسرته، وأنه مع الشعب سيقاتل، سيقاتل، سيقاتل..

قُدر لى أن أشهد هذه اللحظة، اعتلاءه المنبر، كنت إلى جوار الوالد، وشقيقى الأصغر عندما مرَّ بالقرب منا، وكان مهيباً، جليلاً، حضوره نافذ، وقّاد، أما الحراسة حوله فكانت محدودة جداً، ويمكن لأى إنسان أن يمد يده ليصافحه، وكان معظم المصلين مسلحين ببنادق «لى أنفيلد» إنجليزية الصنع، التى كانت توزع وقتئذ على أفراد المقاومة الشعبية.

مازال المشهد ماثلاً عندى، حياً، لحظات يُستنفر فيها الموروث القديم بكل مضامينه، تنتفض الروح الجماعية للمصريين عبر مكان، ومن خلال موضع محدد، يتحول المنبر عندئذ إلى رمز، منبر الأزهر له الصدارة عندى بسبب هذا اليوم، وما جرى فوقه خلال اللحظات الصعبة المماثلة فى الماضى البعيد، الآن أذكر منبر الطنبغا الماردينى فيدركنى ألم، لقد فك اللصوص حشواته الثمينة وحتى الآن نجهل مَنْ أقدم على ذلك، لا حس ولا خبر.

للمنابر وظيفة معنوية، وعدة وظائف أخرى فى إطار المسجد، ولأن المنبر يقع بجوار المحراب، آخر مرحلة فى عمارة المسجد، فإنه يحاط بعناية خاصة فى الصنعة والقيمة الفنية، كلما اقترب الإنسان من الهدف النهائى، من الوقفة بين يدى الله سبحانه وتعالى، أصبح للأشياء وجودها المغاير، هذا ما أدركه المعمارى المسلم والمصمم المهندس للمساجد،

لذلك نجد العناية الفائقة بالمنبر، بالمحراب، بكرسى المصحف، الوثائق المملوكية الخاصة بالوقف حددت وظيفة المنبر. يورد الدكتور محمد عبدالستار عثمان، أستاذ الآثار الإسلامية فى جامعة سوهاج، وهو من أهم العلماء المتخصصين فى العالم الإسلامى.. يورد نصوصاً من هذه الحجج فى كتابه القيّم عن «نظرية الوظيفة بالعمارة الإسلامية»، فى وثيقة مدرسة الجمالى يوسف ما نصه:

«أما المنبر فوقفه هو برسم الخطبة عليه أيام الجُمع والعيدين على العادة».

كما جاء بوثيقة وقف قرقماس ما نصه:

«ووقف المنبر الذى بالجامع المذكور لإقامة الخطب الشرعية عليه على العادة فى ذلك..»

يتكون المنبر من عدة أجزاء متداخلة، بالمقدمة «باب» المنبر الذى يكون من مصراعين مغطيين بالزخارف، يؤدى إلى سلم ينتهى إلى جلسة الخطيب، أما جانباه فكل منهما يسمى «الريشة»، يعلو كل منهما سياج، نرى أعلى المنبر دائرة تشبه القبة، يعلوها هلال، الدائرة تسمى قلة المنبر، غير أننى أرى فى هذا الشكل الدائرى رمزاً للكون، دائرة يعلوها هلال، تماماً مثل الجوسق الذى يعلو المئذنة، به تنتهى، فما يليه فراغ صاعد إلى اللامدى، إلى حيث لا يمكن للأبصار أن «تُدرِك أو تُدرَك».

فى العصر المملوكى تنوعت المواد التى تنشأ منها المنابر، لم تعد تقتصر على الخشب فقط، مرة أخرى أؤكد أنه لا يوجد عنصر يشبه الآخر فى العمارة المملوكية وما يتصل بها من أدوات، كل منبر حالة، كل مسجد شخصية خاصة، التنوع فى المنابر بتبع التنوع فى العناصر الأخرى، فى خانقاه فرج بن برقوق بصحراء المماليك منبر من الحجر،

كذلك جامع شيخو، ثمة منابر من رخام، أقدمها منبر جامع الخطيرى المنشأ سنة ٧٣٧هـ/١٣٣٧م، وبقاياه محفوظة بمتحف الفن الإسلامى بالقاهرة، ومنبر جامع آق سنقر ويعتبر أقدم مثل باق من المنشآت الدينية المملوكية، يليه منبر مدرسة السلطان حسن الذى صنع له باب من النحاس المفرغ، وهذا المنبر يعتليه الآن الدكتور على جمعة مفتى الديار، أخبرنى فضيلته أنه عندما تولى الخطبة فى السلطان حسن منذ سنوات أحصى المصلين أثناء وقوفه فوق المنبر فكانوا حوالى خمسين،

وهذا عدد قليل جداً بالنسبة لاتساع المكان، الحقيقة أن الناس فى المنطقة يتهيبون المساجد الكبرى مثل السلطان حسن، وثمة حكايات متوارثة تحول دون البعض ومساجد بعينها، فما يتناقله الناس فى الخليفة والقلعة أن السيدة نفيسة غضبت على أحمد بن طولون ومسجده ودعت عليهما،

لذلك لا يقبل القوم على صلاة الجمعة به، ولسنوات عديدة كان المسجد يخلو تماماً يوم الجمعة بسبب غضب السيدة نفيسة، بدأ الناس يقبلون على مسجد ومدرسة السلطان حسن للاستماع إلى خطبة الدكتور على جمعة، الآن يبلغ عدد المصلين عدة آلاف، ومنهم الذى يأتى فى ساعة مبكرة ليحجز مكاناً قريباً من المنبر.

المنابر ليست لاعتلاء الخطباء من العلماء فقط، إنما تعد مصدراً ثرياً للمعلومات بما تشتمل عليه من أسماء السلاطين والأمراء، وأحياناً بعض من قام بصناعتها، مثل جامع أبوالعلا الذى كتب على بابه ما نصه:

«نجارة العبد الفقير إلى الله تعالى الراجى عفو ربه الكريم على بن طنين بمقام سيدى حسين أبوعلى نفعنا الله..».

المنابر الخشبية فى العصر المملوكى مصدر بهجة، وهذه الثلاثية من المنابر كانت كنوزاً للجمال، بما حفر عليها من زخارف.

منبر مسجد «ألجاى اليوسفى»

منبر مسجد الطنبغا الماردينى الذى فكه اللصوص وسرقوا حشواته

منبر مسجد قجماس الإسحاقى المعروف بمسجد أبوحريبة، المطبوع على ورقة النقد فئة الخمسين جنيهاً، هذا أجملها جميعاً، وزخارفه مدهشة وسوف أرجئ تأملاتى حولها إلى حين وصولى إلى هذا المسجد الجميل، إلا أننى أستبق بإطلاق تحذير من صفحات «المصرى اليوم»، أناشد من خلاله وزير الداخلية حبيب العادلى، وقيادات الشرطة من ذوى الصلة، والصديق اللواء حمدى عبدالكريم، مدير قطاع الإعلام، واللواء إسماعيل الشاعر، كما أناشد الدكتور زاهى حواس، ومدير قطاع الآثار الإسلامية وهو الأستاذ فرج فضة الذى لا نسمع له صوتاً ولا نرصد له حركة منذ توليه القطاع، أناشد وأحذر كل من له صلة:

انتبهوا إلى مسجد قجماس الإسحاقى.

انتبهوا إلى واحد من أجمل مساجد العالم الإسلامى.

ليس لدى معلومات، لكن بقراءة حركة اللصوص، ونوعية أماكن العبادة التى تجرأوا إليها يحدثنى قلبى أن الهدف التالى مسجد قجماس الإسحاقى بالدرب الأحمر، ومسجد قايتباى بصحراء المماليك المهمل الآن، الممنوعة زيارته للأجانب، وكما أخبرنى الأهالى أن من قرر ذلك عضو مجلس الشعب عن المنطقة وضمن اسمه «حيدر..» ولا أدرى بأى صفة أصدر هذا القرار، هالنى فى رمضان الحالى أن البعض أحاط المئذنة بمصابيح ملونة مما يستخدم فىالسرادقات الرخيصة، لمبات حمراء وزرقاء وصفراء تبرق وتنطفئ كأن المسجد خيمة لسيرك ردىء، كيف يعامل أرق وأجمل المساجد هكذا؟

أحذر من سرقة كل منهما، قجماس وقايتباى.

أحذر من حريق يلتهم قايتباى بسبب أسلاك الكهرباء العشوائية فى المئذنة القريبة من القبة الخشبية.

اللهم بلغت، اللهم فاشهد..
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالسبت سبتمبر 05, 2009 7:41 am

تجليات مصرية : الشجرة كون.. والأغصان مصائر

على الجدار القبلى لمسجد الطنبغا الماردينى زخارف بالغة الرهافة، يستوقفنى منها نقش أبيض اللون على خلفية بيضاء أيضا، أى بارز قليلا لشجرة توازيها أخرى، شجرة واضحة تماما كأنها فى حديقة، بالتأكيد هذا تأثير فاطمى، حيث كان تشخيص الأشياء شائعا إلى درجة أننا نرى على إفريز من الخشب وصل إلينا من القصر الفاطمى الكبير، مشهد عازف على العود، مجلس طرب، كان هذا المنظر من مقتنيات متحف الفن الإسلامى المغلق منذ سنوات طويلة ويعلم الله وحده ماذا جرى لمحتوياته التى كانت تتجاوز المائة ألف قطعة، ويقال الآن إن عدد القطع التى ستعرض بعد الافتتاح المرتقب ثلاثة آلاف!!

على أى حال ندعو الله أن يمد فى أجلنا حتى نرى الافتتاح المرتقب ونستعرض ما سيكون. ما غاب وما حضر من تحف وآيات. فلأستغرق فى تأملى تلك الشجرة.

الشجر موجود على جدران المساجد. وعلى النوافذ التى يتخللها الزجاج المعشق بالجبس، مرات أراها صراحة كما أشهدها الآن فى مسجد الطنبغا الماردينى، ومرات بالتجريد كما أتاملها حول قبة قلاوون، أشجار متفرعة، تتجه أغصانها إلى جميع الاتجاهات، وأشجار نحيلة مستطيلة خضراء يسر لونها الناظرين، فارسية المنشأ شجرة التيوليب، أراها واضحة جلية فى النوافذ العليا بقبة قايتباى، والحمد لله أن تلك النوافذ من الزجاج الملون المعشق بالجبس لم يتمكن منها اللصوص الذين فككوا كرسى المصحف الذى يعد من تحف العالم الإسلامى، عملوا بهدوء ودأب وفى أمان حتى تركوا الإطار مثل قفص الدجاج بعد أن كان تحفة لا يخلو منها أى مؤلف عن الفن الإسلامى، مرة أخرى، لأعد إلى الأشجار. ليس مثل الشجرة كرمز، ورد ذكرها فى القرآن الكريم.

«فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم...»

سورة النساء آية ٦٥

«لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون»

سورة النحل آية ١٠

«أن اتخذى من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون»

النحل آية ٦٨

«والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس»

الحج آية ١٨

«الذى جعل لكم من الشجر الأخضر نارًا فإذا أنتم منه توقدون»

يس آية ٨٠

«والنجم والشجر يسجدان»

الرحمن آية ٦

«ثم إنكم إيها الضالون المكذبون، لأكلون من شجرٍ من زقوم»

الواقعة آية ٥١، ٥٢

«فأنبتنا به حدائق ذات بهجة، ما كان لكم أن تنبتوا شجرها»

النمل آية ٦٠

«ولا تقربا هذه الشجرة فتكون من الظالمين»

البقرة آية ٣٥

«ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين»

الأعراف آية ١٩

«ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين»

الأعراف، آية ٢٠

«فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما»

الأعراف آية ٢٢

«وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة»

الأعراف آية ٢٢

«ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة»

إبراهيم آية ٢٤

«ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض»

إبراهيم آية ٢٦

«وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة فى القرآن»

الإسراء آية ٦٠

«قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى»

طه آية ١٢٠

«وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن»

المؤمنون آية ٢٠

«كأنها كوكب درى يوقد من شجرة مباركة زيتونة»

النور آية ٣٥

«فلما أتاها نودى من شاطئ الواد الأيمن فى البقعة المباركة من الشجرة»

القصص آية ٣٠

«ولو أنما فى الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله»

لقمان آية ٢٧

«أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم»

الصافات آية ٦٢

«إنها شجرة تخرج فى أصل الجحيم»

الصافات آية ٦٤

«وأنبتنا عليه شجرة من يقطين»

الصافات آية ١٤٦

«إن شجرة الزقوم، طعام الأثيم»

الدخان آية ٤٣

«لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة»

الفتح آية ١٨

«أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون»

الواقعة آية ٧٢

هذه هى الآيات التى ورد فيها لفظ الشجر طبقا لمختلف طرق نطقه، الشجر، الشجرة، ونلاحظ أن المرحوم العلامة محمد فؤاد عبدالباقى، أورد لفظ شجر بمعنى مشاجرة أو شجار، فى المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم والذى أنفق عمره فى إعداده خلال النصف الأول من القرن الماضى، ويعد بحق من جلائل الأعمال، أعد هذا الفهرس فى زمن خلا من الحاسوب، وأى عنصر مساعد، نلاحظ الآية الأولى من سورة النساء التى ورد فيها لفظ شجر بمعنى اشتباك أو صراع، هنا ننظر فى اللغة، أن تعاقب الشين والجيم والراء يعبر عن اصلين متداخلين، يقرب بعضهما من بعض، ولا يخلو معناهما من تداخل الشىء بعضه فى بعض، ومن علو فى شىء وارتفاع، فالشجر معروف، الواحدة شجرة وهى لا تخلو من ارتفاع وتداخل وأغصان، والشجر كل نبت له ساق، وسميت مشاجرة لتداخل كلامهم بعضه فى بعض..»، هذا ما جاء فى معجم؛ مقاييس اللغة، غير أن قاموس الزمن والعصور القديمة يحتفظ لنا بمعانى متعددة للشجرة تتجاوز وجودها المادى المرئى.

الوجود الرمزى
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالسبت سبتمبر 05, 2009 7:43 am

أذكر رؤيتى أول مرة لمقبرة الفنان سنجم رع فى دير المدينة بالأقصر، كان ذلك فى سبعينيات القرن الماضى، وقد بدأ ترددى على الأقصر منذ عام ١٩٦١ من خلال رحلة المدرسة الثانوية، وكانت هذه الرحلات وسيلة مهمة للتعرف المباشر على مصر، على معالمها وتاريخها، فى عام ثمانية وسبعين زرت دير المدينة لأول مرة، قرية كاملة كانت تتبع معبد هابو، خصصت للفنانين الذين يرسمون المقابر الملكية فى وادى الملوك، وكانوا يقضون أعمارهم فى هذا المكان المنعزل، لا يتصلون بأحد ولا يتصل بهم أحد، بحكم بما يقومون به كانوا مطلعين على أهم أسرار الدولة الفرعونية، أماكن دفن الملوك ومعهم ثرواتهم وكل ما كان يخصهم فى حيواتهم، لذلك كان اختيارهم يتم وفقا لشروط دقيقة أولها طبعا الموهبة والثقة، سنجم رع كان أحد هؤلاء وقد دفن بالقرب من منزله، ولا تزال مقبرته موجودة، ألوانها واضحة، جميلة، قام برسمها هو،

أى أنه شغل المعلم لنفسه، لن أفيض فى الحديث عن المقبرة التى تحوى تصوراً كاملاً، لعله الوحيد فيما رأيت لتصور المصرى القديم عن حقول يارو، حقول السعادة الأبدية، إنها تصور الجنة فى العالم الآخر طبقا لما اعتقده المصريون القدماء ولعل هذا التصور هو أقدم تمثل للعالم الآخر، وللجنة بالتحديد، حيث السعادة الأبدية التى يحظى بها المبرأ بعد مروره بكل خطوات ومراحل المحكمة الاوزيرية التى يتم أمامها وزن القلب للاطلاع على الحسنات والسيئات.

المشهد الذى فوجئت به يتضمن شجرة ضخمة بكامل تفاصيلها، تقترت ملامحها كثيرا من شجرة الجميز، والجميز شجر مقدسى فى مصر القديمة. غير العادى، غير المألوف أنه من جذع الشجرة تنبثق أنثى، امراة جميلة، المرأة هى حتحور ربة الجمال والأنوثة والرفاه، أنثى من شجرة وشجرة من أنثى، لوحة غريبة تتجاوز جميع ما عرفته من الفن الحديث، اللوحة عمرها أكثر من خمسة وثلاثين قرناً.

المشهد الثانى الذى أبهرنى بجمال خطوطه وقوتها فى واحدة من أجمل أماكن العالم، مقبرة تحتمس الثالث مؤسس الأمبراطورية المصرية بعد تحرير مصر من الهكسوس، المقبرة تعد فى رأيى الأجمل فى وادى الملوك، ما يعنينى منها ذلك الرسم.

الملك يرضع من شجرة

الملك تحتمس يرضع من شجرة

جاء فى موسوعة الأساطير والرموز الفرعونية «المشروع القومى للترجمة عدد ٤٨٢» أن الشجرة فى الفكر المصرى القديم كان لها أهمية كبرى، وأنها فاقت وضع الأشجار فى كل الثقافات والديانات الأخرى، ذلك أن رمزيتها تعتبر الأكثر ثراء، أنها تضرب فى الأرض بجذورها.

ومن تربتها تستمد الحياة فى الوقت الذى تتفرع فيه الأغصان إلى أعلى حيث الضوء والهواء لتستمد الحياة أيضا، أوزيريس سيد العالم السفلى فى العقيدة المصرية القديمة ولد فى شجرة، وفوق أوراق الشجرة المقدسة بعين شمس، سجل تحوت رب العلم، الزمن المتعلق بدورات الحياة، ومصير الكائنات الحية. التفاصيل المتعلقة بالأشجار فى الفكر المصرى القديم تحتاج إلى موسوعة كاملة، لنتدكر أن المخاض قد أتى مريم العذراء تحت جذع النخلة، وفى الموروث الشعبى يقول المصريون إن ثمرة شجر الجميز سوداء لأنه حزن على وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، وعند الصوفية المسلمين أصبح للشجرة معان متعددة.

شجرة الكون

لأن الشجرة تضرب بجذورها فى الأرض، وترتفع باغصانها إلى أعلى نحو السماء، اعتبرها المتصوفة المسلمون جسرا رمزيا لما بين العالمين، ونجد التصور الأكمل لهذه الرمزية عند الشيخ الأكبر محيى الدين ابن عربى الذى استخدم رمز الشجر للدلالة على الكون، كان يرى الكون كله باعتباره شجرة، فى عام ١٩٦٤ قررت لجنة الفلسفة فى المجلس الأعلى للثقافة أن تقيم احتفالا عالميا بمناسبة مرور ثمانية قرون على رحيل الشيخ الأكبر ابن عربى، ولأسباب عديدة لم يقم هذا الاحتفال ولكن أصدرت اللجنة كتابا تذكاريا يضم عددا من الدراسات كتبها ثلاثة عشر عالماً.

كما وضعت خطة لإصدار الموسوعة الصوفية «الفتوحات المكية» وبدأ التنفيذ على الفور الذى قام به الدكتور إسماعيل يحيى، وصدر من الفتوحات أربعة عشر مجلداً، ثم توقف المشروع لأسباب غامضة، وفقط مخطوط لمجلدين سلمهما الدكتور إسماعيل يحيى، قبل وفاته، المجلدات الأربعة عشر التى صدرت تعادل مجلداً واحداً من المجلدات الأربعة التى صدرت فى القرن التاسع عشر عن مطبعة بولاق، فى الكتاب التذكارى نشر الدكتور محمد مصطفى حلمى دراسة عميقة فريدة بعنوان كنوز فى رموز، توقف فيها أمام مفهوم الشيخ الأكبر للشجرة، الرسالة صغيرة الحجم، عالية القيمة، لغتها الرمزية فريدة فى النثر العربى، وأننى لأورد منها مثالاً، يقول الشيخ الأكبر واصفًا شجرة الكون.

«فلما كانت هذه الحبة بذر شجرة الكون، وبذر ثمرتها، ومعنى صورتها، احببت أن أجعل للمكون مثالاً، وللموجود تمثالاً، ولما ينتج منه من الأقوال والأفعال والأحوال منوالاً، فمثلت شجرة نبتت عن أصل حبة بكن، وكل ما يحدث فى الكون من الحوادث كالنقص والزيادة، والغيب والشهادة، والكفر والإيمان، وما يثمر من الأعمال وزكاة الأحوال، وما يظهر من أزاهير القول، والتوق والذوق ولطائف المعارف، وما تورق به من قربات المقربين، ومقامات المتقين، ومنازلات الصديقين، ومناجاة العارفين ومشاهدات المحبين، كل ذلك من ثمرها الذى أثمرت، وطلعها الذى أطلعت:

فأول ما أنبتت هذه الشجرة التى هى حبة كن ثلاثة أغصان: غصن ذات اليمين فهم أصحاب اليمين، وآخر غصن منها ذات الشمال، ونبت غصن منها معتدل الإقامة على سبيل الاستقامة فكان منه السابقون المقربون، فلما ثبت واستعلى جاء من فرعها الأعلى، وجاء من فرعها الأدنى، عالم الصورة والمعنى، فما كان من قشورها الظاهرة وستورها البارزة، فهو عالم الملك، وما كان من قلوبها الباطنة، ولباب معانيها الخافية فهو عالم الملكوت، وما كان من الماء الجارى فى شريانات عروقها الذى حصل به نموها، وحياتها وسموها وبه طلعت ازهارها واينعت ثمارها، فهو عالم الجبروت، الذى هو سر كلمة «كن».. يواصل ابن عربى إلى أن يتحدث عن وحدانية الذات الإلهية، يقول ما نصه:

«فهو مقدس فى وجوده عن ملامسة ما أوجده، ومجانبته ومواصلته ومفاصلته، لأنه كان ولا كون، وهو الآن كما كان، لا يتصل بكون، ولا ينفصل عن كون: لأن الوصل والفصل من صفات الحدوث، لا من صفات القدم، لأن الاتصال والانفصال يلزم منه الانتقال والارتحال، ويلزم من الانتقال والارتحال التحول والزوال، والتغير والاستبدال، هذا كله من صفات النقص لا من صفات الكمال، فسبحانه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا..».

ثم يتحدث الشيخ الأكبر عن النور المحمدى، يقول ما نصه:

«كل ما يحدث فى شجرة الكون من نمو وزيادة، وإزهار وإثمار أفكار، ومتشابه شوق، ومحكم ذوق، وصفاء أسرار، ونسيم استغفار، وما ينمو به من الأعمال، وتزكو به الأحوال، وما تورق به من رياضات النفوس، ومناجاة القلوب، ومنازلات الأسرار، ومشاهدات الأرواح، وما ينبت به من أزاهير الحكم، ولطائف المعارف.

وما يصعد من طيب الأنفاس، وما يعقد من ورق الإيناس، وما ينشأ من رياح الارتياح، وما يبنى على أصلها من مراتب أهل الاختصاص، ومقامات الخواص، ومنازلات الصديقين، ومناجاة المقربين، ومشاهدات المحبين، كل ذلك من لقاح الغصن المحمدى، متوقد من نوره، مستمد من نماء نهر كوثره، مغذى بلباب بره، مربى فى مهد هدايته، فلذلك عمت بركاته وتمت على الخلائق رحمته.

«وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين..»

تلك نماذج من رؤية صوفية للشجرة كما عبر عنها الشيخ الأكبر فى رسالته «شجرة الكون» دائماً كانت الشجرة مصدر إيحاء ومنطلق رموز، إننى اتأمل أشكالها المختلفة فى المساجد المصرية، ما أريد التأكيد عليه أن كل خط نراه أو دائرة أو رسم لشجرة أو حرف من حروف الخط، كل هذه الأشكال التى تملأ الفراغات فى مساجدنا خاصة ودور العبادة كافة ليس وسيلة لملأ الفراغات، إنما هى رموز ورسائل من زمن إلى زمن، ومن جيل إلى جيل، ومن إنسان ولى إلى إنسان يسعى الآن وسيلحق بمن سبقه ليبدأ أخذ السعى فى زمن مغاير، لذلك أدعو إلى التأمل والتبصر فيما وصلنا من فنون ومعان على جدران المساجد، إذ إنها تتضمن الإرث كله.

ثلاثية

أستعد لمفارقة مسجد الطنبغا الماردينى، متجها إلى مسجد قجماس الاسحاقى والذى سماه الناس «أبوحريبة» نسبة إلى الشيخ أحمد أبو حريبة المدفون فيه، الحقيقة أن المساجد الثلاثة.

مسجد ألجاى اليوسفى

مسجد الطنبغا الماردينى

مسجد قجماس الاسحاقى

هذه المساجد الثلاثة تشكل ثلاثية مهمة فى معمار القاهرة القديمة خاصة، والمعمار الإسلامى عامة، كل منها ينفى إلى الآخر، مسجد الجاى اليوسفى ببساطته وتجريده وتركيزه على عنصر الاتزان والتوازن، مسجد الطنبغا الماردينى بما يحتويه من نقوش مشبعة بالرموز، وانفراده بذلك السياج الخشبى الرائع والذى اعتبره رمزاً فريدا بأشكاله وتضاريسه، أما مسجد قجماس الأسحاقى «أبو حريبة» الذى نتجه إليه الآن فهو ذروة الإبداع المنمنم فى هذه الثلاثية، لكن قبل الوصول إليه، استدعى مما دونته تفاصيل تتعلق بالشخصية التى أشرت إليها من قبل، النشو الذى استلهمت بعضا منه فى روايتى الزينى بركات، إنه شرف الدين بن عبدالوهاب النشو وتفاصيل صعوده فى العصر المملوكى رغم أنها واقعية تماماً، إلا أنها رمزية أيضاً، إذ إنها تشير إلى آخرين لكنهم يسعون فى عصرنا، لعل تأملها يفسر بعضا من أسباب تعلقى بالعصر المملوكى،
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالسبت سبتمبر 05, 2009 9:48 am

شخصيات مملوكية (١-٢) صعود النشو


النشو

يفصلنا عن شرف الدين عبدالوهاب النشو سبعة قرون هجرية، مات الرجل منذ زمن بعيد، ولكنه مازال يسعى بيننا، هذا ما تقوله سيرته وأفعاله، وما تقول سيرة وأفعال الكثيرين ممن يعيشون حولنا الآن.

والنشو لم يكن بطلاً من أبطال التاريخ، إنما كان رجلاً عادياً، بدأ حياته بخدمة الأمراء فى زمن السلطان الناصر بن محمد بن قلاوون.

كان مستخدماً عند ابن هلال الدولة شاد الدواوين، وكان يتردد عليه كثيراً ويبالغ فى خدمته، واستخدمه ابن هلال الدولة فى الأشغال، وأثناء ذلك تزوج الأمير أنوك ابن السلطان من ابنة الأمير بكتمر الساقى، وبدأ السلطان يفكر فى شخص يعينه لخدمة ابنه، ولابد أنه فكر فى النشو، كان النشو قد وقف بين يديه أكثر من مرة، وتحدث إليه، وعندما كان يتكلم إلى السلطان كان يركز كل حواسه ومواهبه حرصاً على أن يترك أثراً فى نفس السلطان، فى صفر سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة هجرية، التحق النشو بخدمة الأمير أنوك، وكان هذا أول صعوده.

أصبح النشو قريباً من السلطان بحكم موقعه الجديد، وصار يتردد كثيراً على القلعة، يخلو إلى السلطان، ويحادثه فى أمور الدولة، ويبدى الحرص البالغ على أموال السلطان، ومصالحه، وسير العمل فى الدواوين، وفى أثناء إبدائه والحرص، كان يرمى عبارات هنا وهناك فى حديثه، فى البداية كان يلفظها بحذر، ثم لاحظ أن أذنى السلطان مصغيتان إليه فزاد من الدس والوقيعة، وكان مظهره يساعده، إنه طويل القامة، مليح الوجه، حلو التقاطيع، برىء السمات، أثر كلامه فى نفس السلطان حتى بات مقتنعاً أن النشو بحرصه عليه يمكنه أن يحصل له مالاً كثيراً، فأصدر مرسوماً بأن يتولى النشو نظارة الخاص،

أى يكون مسؤولاً عن أموال السلطان وممتلكاته، وهذه وظيفة مهمة جداً، ولكن النشو لم يهدأ، ولم يتوقف، أخذ يتحدث إلى السلطان عن أولاد موظف كبير اسمه التاج اسحق، راح يحدثه عن الأموال التى جمعوها بالباطل، وكرههم له، وكان أحد هذين الولدين قد تولى وظيفته فى نفس اليوم الذى عين فيه النشو ناظراً للخاص، وهو شرف الدين موسى، لم يمض إلا عشرون يوماً فقط، وعمل كلام النشو عمله فى السلطان، فأصدر مرسوماً بعزل شرف الدين موسى من نظر الجيش،

وأمر بالقبض عليه، وعلى شقيقه، ومصادرة ثروتيهما، وكان أسلوب السلطان الناصر قلاوون غريباً فى ضرب موظفيه، لقد استدعى ابن هلال الدولة، وأسر إليه أن يمضى ليحاصر بيوت أولاد التاج إسحق بمجرد دخول الأمراء البلاط، وبالفعل دخل الأمراء، وكبار موظفى الدولة، وبينهم شرف الدين موسى إلى السلطان، عندئذ التفت السلطان إلى القضاء وأخذ فى الثناء على شرف الدين، وقال فى آخر كلامه:

«أنا رأيت هذا وعملته كاتبى»

فى هذه اللحظة بالذات كان الجنود يحيطون بيته، وبيت شقيقه، وعندما خرج من البلاط، واتجه إلى مقر وظيفته، كانت العيون تحيطه بالرهبة، ألم يثن عليه السلطان علناً، ولكنه ما إن جلس بديوان الجيش حتى بلغه أن الحوطة قد وقعت على بيته، وأن رسل الديوان، على باب الجيش، وبلغ الخبر أيضاً إلى أخيه علم الدين، وفى العصر صعد ابن هلال الدولة بأوراق الحوطة «كشوف جرد المحتويات» وهى تشتمل على أشياء كثيرة جداً، منها على سبيل المثال، أربعمائة سروال لزوجة علم الدين، أمر السلطان بتسليم الأخوين إلى ابن هلال الدولة للتحقيق معهما، والتوصل إلى الثروات المخفية، وأحضرت آلات التعذيب، من أسواط، ومعاصير وسئل موسى عن صندوق ذكر أنه أخذه من تركة أبيه، فيه من الجواهر والذهب ما يبلغ مائة ألف دينار، وكان النشو قد أفضى إلى السلطان بوجود هذا الصندوق، فأنكر ذلك، وأقسم الأيمان المغلظة، فرق له ابن هلال الدولة ولم يعذبه،

وهنا استنكر النشو ذلك، وأخذ على ابن هلال الدولة هذه الرقة مع أن الرجل هو أول من استخدمه، وهو ولى نعمته، واضطر ابن هلال الدولة إلى التضييق على موسى، لينتزع منه كل ما لديه.

إن النشو الآن لا يقيم وزنا لابن هلال الدولة، إنه يتحدث إلى السلطان رأساً، والكلام يخرج من فمه إلى أذنى السلطان رأساً، كما أنه لم يكن يدع فرصة إلا ويظهر فيها إخلاصه وولاءه، عند عودة السلطان من الحج، تولى النشو الإشراف على مظاهر الاحتفال، خرج الناس للقاء الناصر، وغلقت الدكاكين والأسواق، وجمع النشو من الأمراء الأبسطة، والمنسوجات الحريرية الثمينة المشغولة بالذهب، وبسطها فوق الأرض أمام القلعة، وحتى مقعد السلطان، وتمضى الأيام، ونفوذ النشو يقوى، ويتزايد، يقول المقريزى فى كتابه «السلوك لمعرفة دول الملوك».

«وفى هذا الشهر كثرت مصادرات النشو للناس، فأقام من شهد على التاج إسحق أنه تسلم من المسكين الترجمان صندوقاً فيه ذهب وزمرد وجوهر مثمن، فرسم لابن الحسنى بعقوبة موسى بن التاج إسحق حتى يحضر الصندوق، وطلب النشو ولاة الأعمال وألزمهم بحمل المال، وبعث أخاه لكشف الدواليب بالصعيد وتتبع مواشى ابن التاج إسحق، فقدم قنغلى والى البهنسا وقشتمر والى الغربية وفخر الدين إياس متولى المنوفية، وعدة من المباشرين فتسلمهم ابن هلال الدولة ليستخلص منهم الأموال.

كان النشو إذا اضطهد شخصاً فإنه يتتبعه حتى يدمره تماما، ويتتبع أى إنسان يمت إليه.. هكذا فعل مع موسى بن التاج إسحق.

يستعين بالأشخاص

ذوى السمعة السيئة والأشرار

بدأ النشو يعتمد على أقاربه، وأرسل أخاه واسمه المخلص إلى الصعيد فى مهمة، عاد منها ليقدم إليه تقريراً عن ثروات مباشرى الوجه القبلى، وطلع النشو إلى السلطان، راح يغريه بهم جميعاً، ويتحدث عن إتلافهم مال السلطان، وهنا صدر مرسوم بالحوطة على جميع مباشرى الوجه القبلى. واعتقالهم، وطلب النشو تجار القاهرة ومصر، وطرح عليهم عدة أصناف من الخشب والجوخ والقماش، بثلاثة أمثال قيمتها، كان يبيع بضائع السلطان بأسعار مرتفعة جداً، وهكذا يحصل له على أموال طائلة، فى الوقت الذى بدأ هو بتكوين ثروته ولكن فى حذر شديد، وكان السلطان الناصر يصدر أحياناً بعض المراسيم التى تتسم بالخير،

وهكذا أصدر مرسوماً بمسامحة الأمراء فى الأموال المدينين بها للديوان، ولكن النشو لم ينفذ هذا المرسوم وألزم مباشر الأمراء بتسديد هذه الأموال، وركب إلى السلطان، وأوضح له قيمة الأموال التى يمكن أن تضيع نتيجة لهذه المسامحة، وأن مال السلطان يضيع ويتبدد، وأن الدواوين تسرق بحجة مسامحة الأمراء، وتأثر السلطان بما سمعه، ومكن النشو من عمل ما يختاره، وألا يسامح أحدا بشىء مما عليه للديوان، وشق ذلك على بعض الأمراء، فراجع الأمير قوصون السلطان، ولكنه لم يجبه إلى شىء، عندئذ كف الأمراء عن السؤال، وعظم النشو فى أعين الناس.

واستعان النشو بالأشخاص ذوى السمعة السيئة، استدعى الشمس بن الأزرق وكان ظلوما غشوماً، فكتب له أسماء أرباب الأموال من التجار، وفرض عليهم قماشا بثلاثة أمثال قيمته، يقول المقريزى:

«وعمت مضرة النشو الناس جميعاً، وانتهى إليه عدة من الأشرار، ونموا على الجميع من أهل الوجه القبلى والوجه البحرى، ودلوه على من عنده شىء من الجوارى المولدات لشغف السلطان بهن، فحملت إليه عدة منهن يطلبهن من أربابهن، وسعوا عنده بأرباب الأموال أيضاً، فدهى الناس منه بلاء عظيم».

وبين الحين والآخر، كان كبار رجال الدولة يفضون بشكواهم إلى السلطان ، ولكنه كان ينهرهم، ويبدى الثقة بالنشو، وأذن له فى عمل ما يختار، وأن يتصرف فى أمور الدولة كما يشاء وألا يبالى بأحد، ووعده بتقوية يده، وتمكينه، ومنع من يعارضه، بل إن السلطان استدعى إخوة النشو وأقاربه، وعينهم عند كبار الأمراء، فجعل المخلص أخ النشو مباشرا عند الأمير سيف الدين الناق، واستخدم أخاه رزق الله عند الأمير ملكتمر الحجازى، واستخدم صهره ولى الدولة عند الأمير أرغون شاه، وخلع عليهم.

انبسطت يد النشو، واشتدت وطأته، واستدار ليضرب أول شخص أحسن إليه، وكان بداية صعوده التفت إلى ابن هلال الدولة نفسه.

ابن هلال الدولة

يلزم بيته بتدبير من النشو
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالسبت سبتمبر 05, 2009 9:48 am

أخذ النشو فى التدبير على ابن هلال الدولة، رتب عليه أنه أخذ من مال السلطان جملة، وأنه أهمل فى المحافظة على أمور السلطان، وأنه بسببه ضاع مال كثير، وانتدب لتحقيق ذلك ثلاثة، أمين الدولة ابن قرموط المستوفى، والشمس بن الأزرق ناظر الجهات، وشخص ثالث اسمه لؤلؤ الحلبى، وحدد يوماً للمواجهة، بالطبع رتب النشو كل كبيرة وصغيرة، وواجه ابن هلال الدولة بأنه أهمل الأمور، وبرطل «رشا» بالأموال، ولم يستمع السلطان إلى الباقين، بل أمر ابن هلال الدولة أن يلزم بيته، وعين شخصاً آخر بدلاً منه فى وظيفته، وأمر بدر الدين لؤلؤ الحلبى باستخلاص الأموال، قبض على ابن هلال الدولة، وصودرت أمواله، وهكذا أجهز النشو على ولى نعمته، والذى كان وجوده يذكره بأيام الزمن القديم عندما كان موظفاً صغيراً فى خدمته.

ثم اختار النشو شخصاً قاسياً، غتيتاً، هو إيدكين الأدكش لولاية القاهرة، وبدأ نشاطه بمهاجمة البيوت، ومصادرة الأموال، وصار يتنكر فى الليل ويمشى فى أزقة القاهرة، فإذا سمع صوت غناء أو شم رائحة خمر هاجم المكان وأخذ من أهله أموالاً طائلة طبقاً لأحوالهم، وكان النشو يوجهه، وينفذ أغراضه من خلاله، ولما تزيد أمر إيدكين طلع الأمير قوصون وشكاه إلى السلطان، وهنا تغير السلطان على قوصون وقاله له:

«أنتم كلما وليت أحداً ينفعنى أردتم إخراجه، ولو أنه من جهتكم لشكرتم منه كل وقت».

وفى الحال أصدر مرسوماً بأن يتولى إيدكين ولاية مصر، إلى جانب القاهرة، ولم يجمع الولايتين أحد قبله، وعظم أمر إيدكين، فى أحد الأيام خرج من القاهرة إلى قرية النخيلة بالوجه البحرى، وكانت منتزهاً للناس، هاجمها وقت الغروب فما قبض على أحد إلا وسلبه ثيابه وتركه عارياً، عرى البلدة كلها عن بكرة أبيها، وجمع أموالاً كثيرة.

غير أن إيدكين لم يستمر طويلاً فى منصبه، ففى أول سنة خمس وثلاثين وسبعمائة هجرية عزل، ونفى إلى الشام، وكان السبب سعاية عدد من كبار الأمراء ضده عند السلطان.

وفى نفس الوقت لاحظ النشو أن مستوفى الدولة أمين الدين قرموط يكثر من الاجتماع بالسلطان ، فخاف عاقبة ذلك، مع أنه هو الذى قدمه إلى السلطان، وبدأ يتكلم فى حقه، وقال إنه جمع كثيراً من مال السلطان لنفسه، فقبض عليه، وعلى جماعة معه، وعوقب قرموط وضرب بالمقارع سعياً لاستخلاص أربعين ألف دينار منه، ولكنه صمد للضرب، عندئذ قيل إنه جلد، وأنه لن يعترف إلا إذا ضرب ابنه أمامه، وجاءوا بولده وبدأوا بضربه فلما اشتد البلاء بقرموط ضرب نفسه بسكين فى حلقومه محاولاً الانتحار، ولكنهم انتزعوها منه، واستمر تعذيبه وتعذيب ابنه.

فى هذه الفترة قدم الأمير تنكر، نائب الشام يوم الأربعاء الحادى عشر من رجب «٧٣٥ هـ»، وسعى عند السلطان ليفرج عن ابن هلال الدولة، وساعده الأمير قوصون، وبالفعل استجاب السلطان لهما، وأفرج عن الرجل، وكان النشو مسافراً إلى الإسكندرية، وعند عودته فوجئ بالخبر، وشق عليه الإفراج عن ابن هلال الدولة، وطلع إلى السلطان، وراح يتحدث عن ابن هلال الدولة وخطورته، ومال السلطان إليه، فأمر الوالى بإحضاره إلى القلعة، وخرج الوالى إلى ابن هلال الدولة، سبه ولعنه، وأبلغه عن السلطان أنه متى اجتمع به أحد شنقه، فنزل وأقام بالقرافة منقطعاً عن جميع الناس، واستمرت سعاية النشو فى الناس، اتهم والى دمياط بأنه خرب أساسا قديماً فى البحر بين البرجين، كان عليه الطلسمات تمنع ماء البحر المالح عن ماء النيل حتى تلفت الطلمسات وغلب البحر على النيل، فتلفت بساتين كثيرة، وأن الوالى نال من ثمرة هذه الحجارة أموالاً طائلة، واعتقل والى دمياط، وعذب، واستخرج منه وجمع أموالاً كثيرة.

وقبض النشو على امرأة موسى التاج، عاقبها وهى حامل عقوبة شديدة على إحضار المال حتى طرحت ما فى بطنها ولداً ذكراً.

كان النشو يستخدم شرار الخلق، وكانت له نساء عجائز يتجسسن فى البيوت الكبيرة، وحدث أن إحدى هؤلاء النسوة أبلغته عن أولاد ابن الجيعان، وأنه يسعى فى نظر الجيش، والآخر يسعى ليتولى نظر الخاص، عندئذ طلب النشو كاتب الاصطبل منهم، وطلب منه أن يكتب حساب الاصطبل، فامتنع، ورد عليه بكلام خشن، عندئذ سعى النشو عليه عند السلطان حتى قال له السلطان:

«لم لا تعمل حساب الاصطبل، وتعطيه الناظر؟ يقصد النشو.. فقال:

«يا خوند: بدل أن تطلب حساب الصبى والمقاود، أطلب حساب الذهب الذى يدخل إلى خزائنك».

وأغلظ فى حق النشو، وعندما قابله، قال له: «ونعمة مولانا السلطان أظهر فى جهتك مائتى ألف دينار».

وهنا قامت قيامة النشو، وانفض المجلس على ذلك فمازال النشو بأولاد ابن الجيعان حتى سلمهم إلى لؤلؤ فعاقبهم حتى هلكوا، وصودرت ثرواتهم، ولم يكتف النشو بذلك، بل قبض على أقاربهم، وصادر أموال عدد من أصحابهم.

مملوك السلطان

فى هذه السنة ٧٣٥هـ، كثر شغف السلطان بمملوكه الطنبعا الماردينى شغفاً زائداً، لدرجة أنه قرر أن ينشئ له مسجداً يحمل اسمه، واختار موقعه خارج باب زويلة، وكان لابد من إزالة عدد من البيوت بعد شرائها، طلب السلطان النشو وكلفه بتحقيق ذلك، عندئذ استدعى النشو أصحاب البيوت، وابتاعها منهم بنصف قيمتها، وتم بناء المسجد والذى مازال قائماً حتى الآن.

وفى نفس هذه السنة جرت محاولة للتخلص من النشو عن طريق الوقيعة، إذ كتبت رقعة إلى السلطان تذكر ظلم النشو، وتسلط أقاربه على الناس وكثرة أموالهم، وعشق صهره لغلام تركى، استدعى السلطان النشو، وبعد أن قرأت عليه القصة قال: «أنا أعرف من كتبها»، وحلف على براءة أقاربه من هذا الشاب وبكى ثم انصرف.

وحاول عدد من الأمراء أن ينبهوا السلطان إلى ثروة النشو الطائلة، لكنه لم يستجب لهم، ولم يصدقهم، كان النشو يحرص دائماً على أن يبدو أمام السلطان فى مظهر الفقير المعدم حتى تزداد ثقة السلطان به، ولكى يؤمن السلطان بفقره كان يقترض من كبار موظفى الدولة المتصلين بالسلطان، مبالغ صغيرة من المال بين الحين والآخر ليوهمهم أنه لا يملك شيئاً، أرسل ذات يوم إلى رئيس الأطباء يطلب منه مائة درهم بحجة أن ضيفاً نزل عنده وليس لديه ما يكرمه به ولكى تجوز حيلته على السلطان انتهز فرصة وجود كبير الأطباء عنده ذات يوم، وشكا فقره للسلطان، وقد أمن رئيس الأطباء على هذه الدعوى بحكم ما وقع بينه وبين النشو من قبل وأمعن النشو فى تصرفاته التى لحقت الخاصة والعامة على السواء، فتدخل فى تجارة السلع الضرورية للحياة من لحم وفول وأقمشة يشترى منها باسم السلطان كميات كبيرة بأسعار رخيصة ثم يبيعها للناس بأثمان عالية.

وهنا لندع المقريزى يحدثنا من خلال كتابه «السلوك» عن وقائع النشو رسالة تتضمن الوقيعة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالسبت سبتمبر 05, 2009 11:37 am

شخصيات مملوكية (٢-٢) سقوط النشو


يقول المقريزى: فى يوم الأربعاء سابع عشر ربيع الأول ٧٣٦ هـ عزل الأمير سيف الدين بغا عن الدوادارية، واستقر عوضه سيف الدين كاجار الماردينى، ثم أخرج بغا على أمرة عشر بصفد، فى ليلة الجمعة سادس ربيع الآخر، وسببه أن بعض تجار قيسارية جهاركس طرح عليه النشو ثياباً بضعفى قيمتها كما هى عادته، فرفع قصته، للسلطان على يد بغا، وأحضر بغا بين يديه فشكا حاله، فاستدعى السلطان النشو بحضور التاجر

وقال له: كم تشكو الناس منك، اسمع ما يقول هذا عنك من طرح القماش عليه بأغلى الأثمان، فقال «يا خوند: هذا ما يشتكى من أمر القماش، لكنه عليه للسلطان مبلغ ثلاثين ألف دينار، وقد هرب منى وأنا أتطلبه، وهذا المبلغ من إرث جارية تزوجها التاجر وهى من جوارى الشهير الملك الأشرف خليل، ماتت عنده وخلفت نحو ألف دينار وما بين جواهر وغيرها، فأخذ الجميع ولم يظهر على السلطان شىء»

ثم التفت النشو إلى التاجر وقال له:

«بحياة رأس السلطان: ما كنت متزوجاً بفلانة؟» يعنى الجارية المذكورة، فقال: «نعم» فأمره السلطان أن يسلمه لابن صابر المقدم حتى يستخلص منه المال، فأخذه ابن صابر وشهره بالقاهرة وعاقبه بالقيسارية مراراً حتى أخذ منه مبلغ خمسين ألف درهم، ثم تحول النشو على بغا، وراح يقول عنه أنه مرتش، وكان السلطان يكره الرشوة، فأثر فيه كلام النشو، فأخرجه، وسعى النشو أيضاً بطقتمر الخازن حتى غير السلطان عليه.

وفى ليلة الثلاثاء ثالث عشر رجب قبض على ابن هلال الدولة، وعلى ناصر الدين محمد ابن المحسنى، وأخرجا إلى الإسكندرية بسعاية النشو.

واشتدت وطأة النشو على الناس، وابتكر مظلمة لم يسبق إليها وهى أنه ألزم أهل الصاغة ودار الضرب ألا يبتاع منهم أحد ذهبا، بل يحمل الذهب جميعه إلى دار الضرب، ليصك بصكة السلطان، فجمع من ذلك مالاً كثيراً للديوان، ثم تتبع «النشو» الذهب المضروب فى دار الضرب، فأخذ ما كان للتجار والعامة، وعوّضهم عنه بضائع، وحمل ذلك كله للسلطان، وانحصر ذهب مصر بأجمعه فى دار الضرب، فلم يجسر أحد على بيع شىء منه فى الصاغة ولا فى غيرها،

ثم إن السلطان استدعى منه بعشرة آلاف دينار، فاعتذر عنها فلم يقبل عذره ونهره فنزل «النشو» وألزم أمين الحكم بكتابة ما تحت يده من مال الأيتام، وطلب منه عشرة آلاف دينار قرضاً فى ذمته، فدله على مبلغ أربعمائة ألف درهم لأيتام الدوادارى تحت ختم بهاءالدين شاهد الجمال، فأخذها منه وعوضه عنها بضائع، ثم بعث «النشو» إلى قاضى القضاة تقى الدين محمد بن أبى بن عيسى الأخنائى المالكى فى تمكينه من مال أولاد «الأمير» أرغون النائب، وهو ستة آلاف دينار، وكانوا تحت حجره فامتنع،

وقال: «السلطان ما يحل له أخذ مال الأيتام». فرد عليه: «السلطان إنما يطلب المال الذى سرقه أخوك من خزانة الخاص حيث كان ناظرها، فإن الحساب يشهد عليه بما سرقه من الخزانة». وقام من فوره إلى السلطان، ومازال به حتى بعث إلى القاضى يلزمه بحمل المال الذى سرقه أخوه من الخزانة، ويقول له «إنت إيش كنت من مملوكى؟» فلم يجد قاضى القضاة بُداً من تمكين «النشو» من أخذ المال.

.. وفى ذى القعدة من نفس السنة، سقط طائر حمام بالميدان، وعلى جناحه ورقة تضمنت الوقيعة فى «النشو» وأقاربه، والقدح فى السلطان بأنه أخرب دولته، فغضب السلطان من ذلك غضباً شديداً، وطلب «النشو» وأوقفه على الورقة وتنمر عليه لكثرة ما يشكى منه، فقال: «يا خوند، الناس معذورون.. وحق رأسك لقد جاءنى خبر هذه الورقة ليلة كتبت. وهذه فعلة المعلم أبى شاكر بن سعيد الدولة ناظر البيوت، كتبها فى بيت الصفى كاتب الأمير قوصون، وقد اجتمع هو وأقاربه»، وأخذ «النشو» يعرف السلطان بما كان من أمر سعيد الدولة فى أيام بيبرس الجاشنكير وأغراه به حتى طلبه، وسلمه إلى الوالى علاء الدين على بن حسن المروانى، فعاقبه عقوبة مؤلمة،

وطلب السلطان الأمير قوصون وعنفه على فعل الصفى كاتبه، فطلبه قوصون وهدده، فحلف بكل يمين على براءته مما رُمى به، فتتبع «النشو» عدة من الكُتّاب وجماعة من الباعة، وقبض عليهم بسبب ابن شاكر، ونوّع العذاب عليهم بيد الوالى، وخرب دورهم بالمحراث، وقبض «النشو» على الموفق هبة الله بن سعيد الدولة، ثم أفرج عنه بعناية الأمير أقبغا عبدالواحد، وعذب ابن الأزرق ناظر الجهات.

أرباب الدواليب

يتضررون من سطوة «النشو»

سنة سبع وثلاثين وسبعمائة

.. وفيها أجدبت زراعة الفول، فألزم «النشو» سماسرة الغلال ألا يباع الفول إلا للسلطان فقط، فتضرر أرباب الدواليب «المقصود بالدواليب جميع الآلات المستخدمة فى الزراعة والصناعة، وهذه الآلات كانت تدور بالأبقار، والأبقار تعتمد على أكل الفول».

وفيها صادر «النشو» جماعة من أرباب الدواليب بالوجه القبلى، وأخذ من محتسب البهنسا وأخيه مائتى ألف درهم وألفى إردب غلة، فرافع ابن زعازع من أمراء الصعيد أولاد قمر الدولة عند «النشو»، فاقتضى رأيه مصادرة ابن زعازع لكثرة ماله، وأوقع الحوطة على موجوده، وكتب إلى والى البهنسا ليعاقبه أشد العقوبة، فلف والى البهنسا على أصابعه الخروق وغمسها فى القطران وأشعل فيها النيران، ثم عراه ولوّحه على النار، حتى أخذ منه ما قيمته ألف ألف وخمسمائة ألف درهم، ووجد له أربعمائة فرجية بفرو، ومائة وعشرين جارية وستين عبداً، ثم كتب عليه حجة بعد ذلك بمائة ألف درهم، واحتج «النشو» بمصادرته بأنه وجد كنزاً.

وفيها ارتفع سعر اللحم لقلة جلب الأغنام حتى بيع الرطل بدرهم وربع، وسبب ذلك أن «النشو» كان يأخذ الغنم بنصف قيمتها، فكتب إلى نائب الشام ونائب حلب بجلب الأغنام، ثم إن «النشو» استجد للسواقى التى بالقلعة أبقاراً، وأحضر أبقارها التى ضعفت وعجزت مع الأبقار التى ضعفت بالدواليب، وطرحها على التجار والباعة بقياسر القاهرة ومصر وأسواقها حتى لم يبق صاحب حانوت إلا وخصه منها شىء على قدر حاله. فبلغ كل رطل منها درهمين وثلثاً، ورميت تلك الأبقار على الطواحين والحمامات كل رطل بمائة درهم ولا تكاد تبلغ عشرين درهماً فبلى الناس من ذلك بمشقة وخسارة كبيرة.

واتفق أن «النشو» أغرى السلطان بموسى بن التاج إسحق حتى رسم بعقوبته إلى أن يموت، فضرب زيادة على مائتين وخمسين شيباً «الشيب سير السوط أى الكرباج»، حتى سقط كالميت، ثم ضرب من الغد أشد من ذلك، وحُمل على أنه قد مات، فَسُرّ «النشو» بذلك سروراً زائداً، وذهب ليرى موسى وهو ميت فوجد به حركة، وفى أثناء ذلك طلب السلطان الأمير لؤلؤا فأخبره بأن موسى قد بدأ يئن، وبعد ساعة يموت، فرسم ألا يُضرب بعد ذلك، فشق هذا على «النشو».

وفيها قل فرو السنجاب من الأسواق، وذلك لقلة جلبه، فأمر «النشو» بأخذ ما على التجار من الفرجيات ذات الفرو، فهوجمت حوانيت التجار والبيوت حتى أخذ ما على الفرجيات من السنجاب، فبلغ «النشو» دعاء التجار عليه فسعى عند السلطان عليهم، ونسب إليهم أخذ الربا، وقال: إن عندهم كميات كبيرة من الأخشاب والحديد واستأذنه فى بيعها عليهم، فأذن له السلطان فنزل وطلب تجار القاهرة ومصر وكثيراً من أرباب الأموال، ووزع عليهم من ألف دينار، كل واحد، إلى ثلاثة آلاف دينار ليحضروا بها ويأخذوا عنها صنفاً من الأصناف، فبلغت الجملة خمسين ألف دينار، وضُرب من تخلف منهم بالمقارع،

ويبدو أن أحد هؤلاء التجار كان على معرفة بالست حدقة زوجة السلطان وأم ابنه أنوك، فذهب إليها وشكا «النشو»، وقال: إن الخشب الذى فرضه عليه قيمته الحقيقية ألفا درهم، وطلب منه «النشو» ألف دينار ثمناً له، عندئذ تحدثت السيدة حدقة إلى السلطان فى ظلم «النشو» للناس، فطلب السلطان «النشو»، وأنكر عليه ذلك، وتجهم له، فانصرف «النشو» وهو فى حالة شديدة من الغيظ، وبدأ يدبر انتقاماً من ذلك التاجر، استدعى رجلاً واتفق معه على الانتقام من التاجر، ذهب الرجل إلى التاجر وسأله فى قرض مبلغ من المال، فأخذ التاجر يشكو مما به من إلزامه بألفى دينار من ثمن خشب طرحه عليه «النشو»، فقال له الرجل: «أرنى الخشب فإنى محتاج إليه»،

فلما رآه أعجبه واشتراه منه بفائدة ألف درهم فى الشهر، امتلأ التاجر فرحاً، وأشهد عليه بذلك، ومضى الرجل ليأتى بثمن الخشب، عاد إلى «النشو» وأخبره بما تم ودفع إليه بنسخة المبايعة، فقام من فوره إلى السلطان وأعلمه أنه نزل ليرفع الخشب من حاصل التاجر فوجده قد باعه بفائدة ألف درهم فطلب السلطان التاجر وسأله عما رماه به «النشو»، فاغتر البائس وأخذ يقول: «ظلمنى وأعطانى خشباً بألفى دينار يساوى ألف درهم» فقال له السلطان: «وأين الخشب؟» قال: «بعته بالدين»، فقال «النشو»: «قل الصحيح فإن هذه معاقدتك بيعه»، فلم يجد بداً من الاعتراف، فحنق عليه السلطان وقال: «ويلك، تقيم الغاثة (تستغيث) وأنت تبيع بضاعتى بفائدة؟» ثم أمر «النشو» بضربه وأخذ الألف دينار منه مع مثلها، وعظم «النشو» عند السلطان، ثم عبر السلطان إلى نسائه وسبّهن وعرفهن ما جرى، وقال:

«مسكين «النشو» ما وجدت له أحداً يحبه كونه ينصحنى ويحصل مالى».

وفى نفس السنة شكا المماليك من تاجر كسوتهم، فطلب السلطان «النشو» وألزمه بحمل كسوتهم من الغد، ومعها مبلغ عشرين ديناراً فنزل «النشو» وألزم الطيبى ناظر المواريث بتحصيل خمسة آلاف دينار، وبعث المقدمين إلى الأسواق ففتحوا حوانيت التجار وأخذوا كسوة المماليك وحوائجهم وأخفافهم ونعالهم وغير ذلك، وأخذوا مركباً فيه عدة بضائع طرحوها على الناس بثلاثة أمثال قيمتها، وأحيط بتركة نجم الدين محمد الأسعودى، وقد مات وترك زوجة وابنة وابنا.. وأخذت كلها، وأخذت وديعة من تركته لأولاده أيتام تحت حجره مبلغاً نحو خمسين ألف درهم، وأنفقت فى يومها على المماليك والخدام، وفتحت قيسارية جهاركس، وأخذ منها مقاطع الشرب «قماش رفيع من الكتان» برسم الكسوة، فارتجت المدينة بأهلها،

وترك كثير من التجار حوانيتهم وغيبوا، فسارت مفتحة، والأعوان تنهب لأنفسها ما أرادت، فلم يُر يومئذ بالقاهرة ومصر إلا باك أو صائح أو نائح، فكانا يومين شنيعين، وعول أرباب الحوانيت على رفع ما فيها وخلوها، فعرف «النشو» السلطان ذلك فنودى: «من أغلق حانوته أخذ ماله وشنق» ففتحوها..

نعم..

لم يبق فى مصر إلا باك أو صائح أو نائح.

هكذا فى بساطة وقوة يلخص المقريزى ما وصل إليه حال الناس تحت سطوة «النشو»، وتمضى السنوات حافلة بظلمه، يمضى «النشو» إلى الأقاليم فيصادر الأموال، وإذا أفرج عن إنسان يشق هذا عليه، ولا يهدأ له بال حتى يعيده مرة أخرى إلى السجن، وفى هذا الخضم تجرى محاولة لاغتيال «النشو»، إذ حدث فى يوم الاثنين ثانى عشر رمضان أن اعترضه فارس، ضربه، فأخطأ سيفه رأس «النشو»، جرح كتفه فقط، فغضب السلطان غضباً شديداً، ولم يحضر السماط، وأرسل الأطباء لمعالجة «النشو»، وأغلظ على الأمراء بالكلام، ومازال يشتد ويحتد حتى عاد القصاد بسلامة «النشو» فسكن ما به.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالسبت سبتمبر 05, 2009 11:38 am

وتجىء سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، ولا يكف «النشو»، ولا يهدأ، يسعى فى الناس بالشر، ولا ينجو من أذاه أمير أو طحان، وعندما يبلغه أن الوعاظ يدعون عليه من فوق منابر الجوامع، يسعى لدى السلطان حتى يمنع الوعاظ جميعاً من الوعظ، وتستمر الأحوال على ما هى عليه فى سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، يأخذ «النشو» مال الأقباط مع أنه كان فى الأصل قبطياً ثم أسلم، ويستولى على حلى النساء، يقول المقريزى:

«وفيها كثرت مصادرة «النشو» للناس من أهل مصر والقاهرة والوجه البحرى والقبلى، حتى خرج فى ذلك الحد».

ولكن لكل أول آخر، ولكل بداية نهاية..

النهاية

سنة أربعين وسبعمائة فى يوم الاثنين ثانى صفر قبض على «النشو»، وعلى أخيه شرف الدين رزق الله، وعلى أخيه المخلص، ورفيقه مجد الدين وعلى صهره ولى الدولة.

كيف؟

لنصغ إلى المقريزى محدثنا عن هذا الزمن البعيد..

«.. وسبب ذلك أنه لما أسرف «النشو» فى الظلم بحيث قل الجالب للبضائع وذهب أكثر أموال التجار لطرح الأصناف عليهم بأغلى الأثمان، وطلب السلطان منه يتزايد، خاف «النشو» العجز فرجع عن ظلم العامة، إلى التعرض إلى الخاصة ورتب مع أصحابه ذلك.

وكانت عادته فى كل ليلة أن يجمع إخوته وصهره ومن يثق فيه للنظر فيما يحدثه من مظالم فيدله كل منهم على داهية، ثم يفترقون وقد أبرم للناس بلاء يعذبهم الله به من الغد على يده، فكان مما اقترحه أن رتب أوراقاً تشتمل على فصول يتحصل فيها ألف ألف دينار عيناً، وقرأها على السلطان، ومنها التقاوى السلطانية المخلدة بالنواحى من الدولة الظاهرية بيبرس والمنصورية قلاوون فى إقطاعات الأمراء والأجناد وجملتها مائة ألف إردب. سوى ما فى بلاد السلطان من التقاوى ومنها الرزق الإحباسية على الجوامع والمساجد والزوايا وغير ذلك وهى مائة ألف فدان وثلاثون ألف فدان».

ويمضى المقريزى فى سرد تفاصيل ما خططه «النشو» مع أقاربه للإضرار بكبار الأمراء وكان ما تفتق عنه ذهنه هو إلزام متولى كل إقليم باستخراج التقاوى من أرضه وحملها إلى خزائن السلطان، ثم تباع من جديد إلى الناس بمعرفة الخاصة السلطانية، انزعج الأمراء من هذا القرار، وقال أحدهم للسلطان: «يا خوند والله إن «النشو» لضرك أكثر مما ينفعك».

ويبدو أن السلطان أمعن الفكر، وأحس أن «النشو» مكروه لدى الجميع، ولم يكن اتخاذه القرار سهلاً، فكتب إلى الأمير تنكر نائب الشام يستشيره فى الأمر، ويخبره أن «النشو» أصبح مكروهاً من الجميع، ولكنه يخدم السلطان وينفعه، وأجاب الأمير تنكر مؤيداً سوء سيرة «النشو»، وختم خطابه قائلاً: «ورأى السلطان فيه أعلى».

وكثرت الأوراق التى كانت تلقى إلى السلطان وتحوى ذماً لـ«النشو»، ومما قيل فى بعضها:

أيا ملكاً أصبح فى نشوة

من نشوة الظالم فى نشيه

انشيته فلتنشئن ضغائنا

سترى غباوتها بصحبة غيه

حكمته فحكمت أمراً فاسداً

وتوحشت كل القلوب لفحشه

سترى بوارقها إذا ما أظلمت

وتحكمت أيدى الزمان ببطشه

ولتندمن ندامة كسعيه

يوماً إذا ذبح الخروف بكبشه

وقرأ السلطان فى ورقة أخرى:

أمعنت فى الظلم وأكثرته

وزدت يانشو على العالم

ترى من الظالم فيكم لنا

فلعنة الله على الظالم

وحدث أن مرض الأمير يلبغا، وكان السلطان يثق فيه، فأقام عنده حتى يطمئن عليه، وخلال حديثهما قال يلبغا: «يا خوند: قد عظم إحسانك لى ووجب علىّ نصحك، والمصلحة تقضى بالقبض على «النشو»، فالأمراء جميعاً يكرهونه، ويكرهونك لحبك إياه، وما من مملوك من مماليك إلا يترقب غفلة منك ليقضى عليك انتقاماً منك لأنك تركت هذا الشخص يعبث بمصالح الناس».

وبكى يلبغا، وبكى الناصر، وقام من عنده مبلبل الخاطر، ليصدر أمراً بالقبض على «النشو».

يقول المقريزى:

«وطلب السلطان المقدم ابن صابر، وأسرَّ إليه أن يقف بجماعته على باب القلعة وباب القرافة، ولا يدعوا واحداً من حواشى «النشو» وأقاربه وإخوته أن ينزلوا، وأن يقبضوا عليهم كلهم، وأمر السلطان الأمير بشتاك والأمير برسبغا الحاجب أن يمضيا إلى «النشو»، ويقبضا عليه وعلى أقاربه فخرج بشتاك وجلس على باب الخزانة وطلب «النشو» من داخلها، فظن «النشو» أنه جاء لميعاده مع السلطان حتى يحتاطا على موجود أقبغا عبدالواحد، فساعة ما وقع بصره عليه أمر مماليكه بأخذه إلى بيته من القلعة، وبعث إلى الأمير ملكتمر الحجازى فأخذ أخاه رزق الله وأخذ أخاه المخلص وسائر أقاربه، فطار الخبر إلى القاهرة ومصر، فخرج الناس كأنهم جراد منتشر».

خرج الناس كالجراد المنتشر!!

لحظة مدببة فى مسار الزمن، عندما ينتهى الكابوس العام، فيسرى الأثر إلى كل إنسان، البعيد، الدانى، الكبير، الصغير، لحظة الخلاص، عندما يندفع الإنسان إلى خارج بيته، يظن أنه بمفرده، وإذا بالجميع فى الشارع، هكذا خرج الناس كالجراد المنتشر عندما سمعوا بخبر القبض على «النشو» وزمرته، وفى القلعة جلس السلطان ومازال فى نفسه شك، إنه يقول للأمراء:

«وكم تقولون «النشو» نهب أموال الناس! الساعة ننظر المال الذى عنده».

فى القاهرة يعم الفرح، أغلقت الأسواق، واتجه الجميع إلى ميدان الرميلة تحت القلعة، كما يتجهون إلى ميدان التحرير فى العصر الحديث، أو ميدان العتبة، أو إلى منشية البكرى «ليلة التاسع من يونيو ١٩٦٧، وليلة وفاة عبدالناصر»، جاء الليل والناس لم تنصرف بل أوقدوا الشموع، يرفعون على رؤوسهم المصاحف، وينشرون الأعلام، وهم يضجون ويصيحون استبشاراً وفرحاً بقبض «النشو»، والأمراء يشيرون إليهم أن يكثروا مما هم فيه، وقضوا الليل كله على ذلك، وفيه زاد النيل بعد توقفه، فقال علاء الدين الشاعر:

فى يوم الاثنين ثانى الشهر من صفر

نادى البشير إلى أن أسمع الفلكا

يا أهل مصر نجا موسى ونيلكم

طغا وفرعون وهو «النشو» قد هلكا

صباح الثلاثاء، نودى فى القاهرة: «بيعوا واشتروا واحمدوا الله على خلاصكم من «النشو». وصباح الثلاثاء أيضاً انتحر شقيق «النشو»، وأخرجوه فى تابوت امرأة حتى دفن فى مقابر الأقباط خوفاً عليه من العامة، وتمت الحوطة على أموال «النشو»، «النشو» الذى كان يتظاهر بالفقر والحاجة، الذى كان السلطان يظن حتى آخر لحظة أنه لا يمتلك شيئاً، فماذا وجدوا عند «النشو»؟، فى بستان جزيرة الفيل وجدوا أمه وامرأته وأخته وولديه، ومعهم ستون جارية، ومائتا جنيه «كيس من جلد البعير» وعصير عنب ثم حمل الأمراء ثروة «النشو» إلى السلطان ووضعوها بين يديه، وضعوا خمسة عشر ألف دينار ذهب، وألفين وخمسمائة حبة لؤلؤ قيمة كل حبة ما بين ألفى درهم إلى ألف درهم، وسبعين فصا بلخش،

قيمة كل فص ما بين خمسة آلاف درهم إلى ألفين، وقطعتى زمرد فاخر رطل ونيف وستين حبلاً من لؤلؤ كبار زنة ذلك أربعمائة مثقال، ومائة وسبعين خاتم ذهب وفضة بفصوص مثمنة، وكف مريم مرصعاً بجوهر، وصليب ذهب مرصعاً، وعدة قطع زركش سوى حواصل لم تفتح، فخجل السلطان لما رأى ذلك، واستمر الأمراء ينزلون كل يوم لإخراج حواصل «النشو»، فوجد له من الأوانى الصينى والبلور والتحف السنية الشىء الكثير، ثم وجدت عنده مائتا برميل مملوءة بالملوحة «سمك مملح» وثمانون بالجبن، وأحمال كثيرة من بضائع الشام ولحم كثير من لحم الخنزير، وأربعة آلاف جرة خمر، سوى ما نهب،

ووجد له أربعمائة بدلة قماش جدد، وثمانون بدلة مستعملة، وزراكش ومفرجات «عباءات»، وستون قفطاناً نسائياً، ومناديل زركش عدة كثيرة، ووجد له عدة صناديق بها قماش سكندرى كان قد صنع لحساب ملكة المغرب ولكنه اختلسه، وكثير من قماش الأمراء الذين ماتوا أو قبض عليهم، ووجد له مملوك تركى كان «النشو» قد خصاه هو واثنين معه ماتا، ثم وجدوا لإخوة «النشو» ذخائر نفيسة، منها لصهره ولى الدولة صندوق فيه مائة وسبعون فص بلخش، وست وثلاثون مرملة «ظرف كان يوضع فيه الرمل الذى يستخدمه الكتاب لتجفيف الكتابة» مكللة بالجواهر الرائعة وإحدى عشرة عنبرية مكللة باللؤلؤ كبار، وعشرون طراز زركش، وغير ذلك ما بين لؤلؤ ومنظوم وزمرد، وكوافى زركش، وقدر الجميع بأربعة وعشرين ألف دينار.

وفى نهاية هذه السنة ٧٤٠ هجرية، مات «النشو» واندثر أمره، مات «النشو» عام ٧٤٠ هجرية بالتحديد يوم الأربعاء ثانى ربيع الآخر.

قد تبدو حياته فى صعودها وانتهائها غريبة، لكن لكم عرفت مصر من المضحكات المبكيات، ليس «النشو» أغربها، الأغرب منه أولئك السلاطين الأطفال، لكن لنرجئ الحديث عنهم فقد اقتربنا من مسجد قجماس الإسحافى «أبوحريبة».. فلنتأهب.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالسبت سبتمبر 05, 2009 12:29 pm

تجليات مصرية .. مسجد قجماس الإسحاقى (١-٢)


مع توالى الخُطى بعد مفارقة مسجد الطنبغا الماردينى، وعند منعرج الشارع تظهر مئذنة وقبة قجماس الإسحاقى «أحمد أبوحريبة»، فلنتمهل هنا، فلنهدئ الخطو لتأمل النسب، تنبع موسيقى خفية من الانسجام بين المئذنة والقبة، تتقدم القبة بالنسبة للقادم من شارع التبانة، من مسجد الطنبغا الماردينى، خلفها تقوم المئذنة، هذه النسبة الرهيفة لم أعرفها إلا فى مسجد قايتباى بصحراء المماليك، بلغ المصمم درجة من الاتزان والنسبة بين المئذنة والقبة، فكأنهما نغمان يستحيل الاستماع إلى أحدهما دون الآخر، ما بين استدارة القبة وسموق المئذنة فى قجماس الإسحاقى يحار بصرى، يتمهل بحثاً عن السر، سر هذا التناسق، أجىء من الغرب، من ناحية باب زويلة،

يختلف المشهد، فالمقدمة للمئذنة، خلفها القبة، لكن التناسق يبرز فى صور أخرى. لا أعجب من تشابه قجماس الإسحاقى وقايتباى، كلاهما شُيّدا فى عصر واحد، كان قايتباى سلطاناً مهيباً، جليلاً، وكان الأمير قجماس الإسحاقى محمود السيرة..

تفاصيل حياته متزنة، هادئة، مما حيرّنى كيف استطاع بناء هذا المسجد الجميل، الذى يضاهى مسجد السلطان.. طبقا لقيم العصر المملوكى لم يكن مسموحاً بذلك، كان الأقل يراعى الأكبر منزلة، فلا يحاول التفوق عليه أو إيجاد أثر يتجاوز أثره، تماما مثل النادل الذى يبدأ عمله فى مطعم أو ملهى أو فندق، يُنصح ألا يرتدى ساعة ثمينة، أو قميصاً مرتفع السعر، يجب أن يظهر دائمًا وكأنه أقل من أى زبون مظهراً، كذلك العلاقة بين السلطان والأمراء، هنا يحق لى التساؤل: أهو تواضع السلطان قايتباى وثقته بنفسه، أم ذكاء الأمير قجماس؟

على أى حال الرابح هو العمارة الإسلامية المصرية وتراثها. أقترب بطىء الخُطى، تماما مثل التى تنتظره لحظات سعيدة، فيرجئ بدءها خشية أن تنقضى وتتحول إلى ذكرى، كل بداية إيذان بنهاية، ليتنا ندرى!

بمجرد محاذاة البناء يبدأ الجمال يطالعنا، كل تفصيلة قطعة فنية قائمة بحد ذاتها، مستطيلات فوق النوافذ والأبواب عامرة بالزخارف، تبدو أوراق الشجر والزهور مجردة خالية من الحياة إذا لم نعرف ما وراءها، لنتوقف أمام عتب باب السبيل الملحق بالمسجد.

مستطيل، تبدأ الزخرفة بقوس فى المنتصف تماماً، دائماً المركز، أبداً المركز، ما من فن احترم مكانة المركز مثل الفن الإسلامى المصرى الذى ورث خبرة آلاف السنين بما فيها من تأمل ورؤية، تنطلق الدائرة من مركز، كل ما فى الوجود له مركز، لا يدور الكون عبثاً، ثمة مركز، ثمة مدبر، ثمة محرك.

من شبه الدائرة يبدو تجريد زهرة، أقرب إلى زهرة اللوتس، تحتويها زهرة أكبر من نفس النوع، ثم تتدفق الأشكال، كل منها يمكن اعتباره منفصلاً، ويبدو أيضا متصلاً فى عين الوقت.

متصل.. منفصل

هذا قانون يحكم الفن الإسلامى المصرى، تماماً مثل الصلة بين الفرد والنوع، الإنسان فرد مفرد، لكن البشر مع بعضهم يكوّنون الجماعة الإنسانية، هذه العلاقة بين الجزء والكل، بين الجزىء والذرة، هذه العلاقة نجدها فى الأدب أيضا، خاصة فى ألف ليلة وليلة، حيث الحكاية الصغيرة تؤدى إلى حكاية أكبر، حكاية تُولَد من حكاية، تماما مثل الزخرفة، فرع من فرع، زهرة من زهرة، خط من خط، عالم منفصل، متصل، هذا قانون يتجسد أمامنا هنا.

أتوقف أمام دائرة لا مثيل لها، تبهرنى فى السلطان حسن دائرتان من رخام مليئتان بالزخارف عند المدخل، واحدة إلى اليمين والأخرى إلى اليسار، لم أعرف مثيلا لهما فى أى أثر إسلامى، هنا يتجسد ملمح الفرادة، كل مسجد، كل مدرسة، كل سبيل، كل خانقاه، كل بيت، كل وحدة من هؤلاء حالة قائمة بذاتها، غير متكررة، نعم، التشابه فى الهيئة الكلية، قبة ومئذنة، صحن وإيوان، محراب ومنبر، لكن لا القبة تشبه القبة ولا المئذنة تشبه المئذنة، كل عنصر حالة متفردة، غير متكررة وبالتالى يصبح لدينا ثراء وتنوع غير موجود فى العالم الإسلامى كله،

جدار مسجد قجماس الإسحاقى متحف مفتوح، عرض دائم للفن الإسلامى المصرى، أرى أوراق نبات تحيط بدوائر من فيروز أزرق، واللون الأزرق السماوى له مكانة خاصة فى الفن الإسلامى. إنه رمز الأبدية، اللامحدود، المطلق، لون لا يحده حد، ولا يؤطره إطار.

الزخارف المنحوتة فى الحجر هنا لم أعرف لها مثيلا فى كل ما رأيت، ليس فى مصر فقط، ولكن فى العالم، هذه الأكوان من الزخارف تذكرنى بعم مصطفى نقاش النحاس الذى قُدر لى أن أعرفه عن قرب.

عم مصطفى

عرفته فى خان الخليلى، بالتحديد فى رَبْع السلحدار، عندما عملت سكرتيرا للجمعية التعاونية لخان الخليلى فى فترة صعبة، شهدت هزيمة سبعة وستين من هذه المنطقة العامرة بالفنانين، تلك سنوات من حياتى لم أبرز مضمونها بعد، كان رَبْع السلحدار يمثل وحدة متكاملة بنيت فى العصر العثمانى لسكن الفقراء، غرف متجاورة تصطف حول أربعة أضلاع للسكنى،

فى الطابق التحتى متاجر تشكل سوقاً شرقية كأنها لوحة، تحت تعرض التحف، وفى الطابق الثانى تصنع، عشت عامين إلى جوار نقاشى النحاس، وفنانى النقش بالصدف، ورفاء السجاد، والنجار العربى - أرابيسك - عرفت الصناع الكبار، وتفانين كل منهم، كان التعبير المتداول «أنا دلوقتى باخلّق»، تمثل أمامى وجوه الحاج سعيد «صدف» الحاج فتحى «فضة» الحاج القربى «جلود»، من تبقى حتى الآن من الفنانين الكبار صديقى وأخى صالح بدر، يوما سأكتب بالتفصيل عن أيام خان الخليلى، خاصة أننى عشت محنة الخان بعد هزيمة يونيو، وعملت مع المهندس فخرى زكى بطرس المهاجر الآن إلى الولايات المتحدة وكان مديرا للجمعية، عملنا معاً على إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

كثيراً ما أقف أمام هذه الآثار الفنية، أتأمل روعتها وأتساءل عمن أبدعها، للأسف لم يترك لنا هؤلاء أسماءهم، لم يوقعوا إلا فيما ندر، عندما عايشت الفنانين فى خان الخليلى أدركت أنهم مثل أولئك الذين أبدعوا ومروا فى صمت، لم يعرفهم أحد، من هؤلاء عم مصطفى، كان نحيلا، قصيراً، أشيب الشعر، منحنياً قليلاً لطول الساعات التى أمضاها متقوساً فوق صوانى النحاس التى يتسلمها خالية كصحراء ولا يفارقها إلا وهى عامرة كحقل من الزهور أو سماء من النجوم، كان لديه غرفة لكنه يفضل الجلوس أمامها فى الممر، أن يعمل فى «نور ربنا» كما قال لى،

يبدأ فى التاسعة صباحاً وينتهى قبل الغروب حيث يغادر إلى شارع المعز، متجهاً إلى باب الفتوح، ولابد أنه كان يقيم فى هذه الناحية، رأيته يمشى خفيفا، مسرعا عند القدوم وعند الإياب، رأيته يمشى متمهلاً، بطىء الخُطى،

رأيته يسير متكئا على عصا

رأيته فى آخر ثمانينيات القرن الماضى يمشى الهوينا، يمسك بذراعه أحد أقاربه، كان بصره قد كف عن الرؤية.

فى جميع هذه الحالات لم يتوقف عن النقش، القطعة التى ينقشها لا تتكرر، ويبدأ من المركز، يضرب سطح النحاس أو الفضة بمطرقة صغيرة ليحدد المركز ومنه ينطلق، ليس لديه تصميم مسبق فى الزخارف تتدفق من ذاكرته، من مخيلته، يمضى بها عبر الأزميل والسن المعدنى إلى كل فج، هنا أعمق، هنا أخف، هنا يبرز النقش، هنا يبدو كالهمس، كنت أرقبه صامتاً فى جلسته، فى دأبه، فى استغراقه، أدعو الله أن يهبنى مثل قدراته فى الكتابة، لم يكن ينقش بأصابعه، إنما بنظره، ببصره، ببصيرته، بأنفاسه، الظاهر منها والخفى.

مرة سألته عن هذه الأشكال من أى نبع تفد عليه؟

قال إنه أمضى أوقاتاً طويلة فى المساجد، يتأمل النقوش، يحفظها كما هى، كما تبدو، وإذ يمضى مبتعداً يفككها، يعيدها سيرتها الأولى، خطوطاً، خطوطاً، وبمخيلته أيضا يستأنف النقش، كان متحف الفن الإسلامى أحد مصادره، لكم تأمل القطع التى وصلت إلينا من عصور السلاطين والأمراء والولاة، كان يتقن العربى والفارسى، والفرعونى.

فى سنواته الأخيرة كنت حريصا على اقتناء ما تيسر من فنه، نقش لى صينية مستطيلة، مركزها دائرة، يتوسطها اسمى بالخط الثلث، طوال عمله فيها كان يبتسم ويرفع عينيه الكليلتين، يشير إليها قائلاً

«شوف محبتى لك.. طالعة فيها..»

صدق قوله، لم أعرف رهافة فى أخرى مثلها، يحلو لى أن أسافر فى ثنايا نقوشها، أن أتأملها كما أتأمل لوحة لبيكاسو أو ماتيس، عم مصطفى لا يقل إبداعا عن هؤلاء، عندما طلبت منه بعد فراغه من النقش أن يوقع باسمه فى خلفية الصينية، أبدى دهشته، قال لى:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالسبت سبتمبر 05, 2009 12:29 pm

«ماحدش طلب منى ده.. أنا أمضى؟»

لمست كتفه قائلاً:

«أنا باطلب منك يا عم مصطفى..»

راح يردد

«أنا؟»

أقول له:

«أيوه يا عم مصطفى.. عاوز أحتفظ بتوقيعك»

فوجئت به يدمع، يترجرج صوته، يردد:

«ما حدش طلب منى ده.. دا أنا يظهر حاجة كبيرة عندك..»

ويبدو أنها آخر مرة يوقع فيها، كان يشير إلى بعض القطع باعتزاز لأن من طلبها ناس بتفهم، وكان يشير إلى قطع أخرى مستخفا، يصفها بأنها شغل أكل عيش، شغل بزارى، أى سوقى، لكنه فى كل الأحوال يتقن ما يعمله، ظل ينقش وينقش إلى اللحظة الأخيرة فى عمره، عامان كف فيهما بصره، كان ينقش وهو أعمى تماما، يكفى أن يبدأ من المركز، عندئذ تتدفق النقوش من ذاكرته إلى أنامله إلى سطح الصينية أو الإناء، لا يخطئ اتزانه ولا توازنه ولا ملامح الوحدات التى يبدعها، الذاكرة ترى، والبصيرة تعمل بدلاً من البصر.

عم مصطفى عندى هو المثال لمن لا أعرفهم، هؤلاء الذين نقشوا وأبدعوا، هؤلاء الذين جاءوا فى صمت وذهبوا فى صمت، خرجوا من الدنيا كما دخلوها لكنهم أودعوا عمارة بلادهم ما نتباهى به ونفخر الآن، وهذا من أسرار حسرتى على ما يُسرق من آثارنا ويذهب إلى الجُهّال من الأثرياء المحدثين بمعونة كبار الفاسدين فى بلادنا، أتذكر عم مصطفى وأمثاله أمام النقوش التى تغطى جدران مسجد قجماس الإسحاقى، سواء كانت فى الحجر، أو الخشب، أو النحاس، أو الزجاج، من خلال المادة أكاد أصغى إلى أنفاسهم. إذن.. إلى داخل المسجد الجميل.

الساباط

عبر السنوات تكونت بينى وبين المساجد والأسبلة وسائر العمائر صلة، لكل منها طريقة فى الاقتراب والتعامل، بالنسبة لقجماس الإسحاقى أفُضّل دخوله من الناحية الشرقية، من الميضأة، ليس من الباب الرئيسى، ربما لكى أمر من داخل الساباط، إنه عنصر معمارى فريد لا يوجد إلا هنا، الميضأة تقع على الطرف الآخر من الشارع.

إنه شارع بير المش، المؤدى إلى مسجد أصلم السلحدار، هدفى التالى، طبقا لفقه العمران وأحكام البنيان التى كانت تنظم التخطيط والعمارة داخل المدينة، فلابد للمنشئ أن يراعى مصلحة العموم، إذا كان مقتدراً يجب أن يضع فى الاعتبار فائدة الجمع،

فإذا بنى منشأة، مسجدا كان أو بيتا فيجب ألا يُصعّب على الناس طريقهم، إذا اعترض الطريق يجب أن يوجد منفذاً يمر منه الخلق، هذا هو سر الأقبية الموجودة فى القاهرة، مثل قبو قرمز تحت مدرسة وخانقاه الأمير متقال، وقبو بشتاك تحت قصره فى شارع المعز، وهذا أيضا سبب وجود هذا الساباط، الميضأة بنيت على الطرف الآخر من الطريق، ثم وصلها بالمسجد عن طريق هذه المعبرة كما يسميها الناس هنا، أو الساباط كما يقول المصطلح المعمارى.. إ

نه ممر مسقوف يصل بين دارين أو جزءين، وكان بين قصر قرطبة ومسجدها ساباط، كذلك بين قصر أشبيلية ومسجدها، وأيضا فى مراكش، فى القاهرة لا يوجد إلا هذا الساباط، أفضل تأمله من الخارج، يذكرنى بقناطر مدينة البندقية، خاصة انحناءته، وعندما أمر به أتوقف متطلعا إلى حركة الناس والدواب والعجلات، إنه معبر إلى المسجد، وإننى لأفضل العبور إلى ذلك الكون البديع بدلاً من الدخول إليه مباشرة، كل جميل، كل ذى قيمة يجب أن نقترب منه على مهل، التأهب قبل المشاهدة جزء ضرورى من كمال الاستيعاب، ولنتذكر دائمًا ما أردده «المهم كيف نرى»، ذلك أهم من الرؤية بلا تأهب أو معرفة.

ها أنذا أقف على حافة الصحن المغطى، على حافة الجمال

ياه.. ليت كل من أحب وأهوى معى ليرى وليستوعب وليتذوق ما أتذوق! هذا مجمع للجمال. لثراء الزخارف والخط والألوان، أكاد أغمض عينى وحالى يردد: مهلا.. مهلاً، ليس بهذا القدر كله.

أربعة إيوانات، الجدران خطوط متبادلة.

أبيض

أحمر

نظام معروف بالأبلق، أحيانا يكون أسود - أبيض، الجدران مغطاة بالنقوش الموزعة فى مستطيلات ودوائر، أما الآيات القرآنية قرب السقف فالخط من الذرى الرفيعة، إن العمارة الإسلامية فى مصر ديوان لا مثيل له لفن الخط العربى، ولكم أتمنى أن يقدم المجلس الأعلى للآثار على تسجيل هذه الخطوط وجمعها فى كتاب قبل أن ينتبه إليها اللصوص المسنودون!

دولة عربية صغيرة جدا تنشئ متحفا يوصف بأنه الأضخم فى الشرق الأوسط، ويتولى المشورة له مسؤولون كبار جدا، أكبر مما نتصور فى الإدارة الثقافية بمصر!!

فلأنفض عنى تلك الأفكار المثيرة للنكد.

المبهر هنا النوافذ، لا يماثلها فى الجمال إلا نوافذ مسجد قايتباى، زجاج ملون معشق بالجبس، إنه فن مصرى قديم موجود فى الكنائس، يجىء الضوء من أعماق الكون، نرى بالضوء ولا نراه، لكن عندما يمر من الزجاج الملون يمكن لنا أن نراه، لأن الضوء أحادى اللون يتحول إلى عناصره الأولى، إلى ما يكوّنه، تنفذ الأشعة إلى الداخل فنرى الأخضر والأحمر والأصفر.

كل كأنقى ما يكون.. خلال سنوات عديدة كنت أتردد على ثلاثة أماكن، قبة المنصور قلاوون بشارع المعز، مسجد قايتباى، وقجماس الإسحاقى، ساعات فى كل مرة أتامل وأتابع حركة الضوء الملون، إننى أسميها مجازا بالألوان لكنها ليست بألوان، إنها رسائل من أعماق اللاوجود، من حيث لا يمكن أن تدركه أبصارنا المحدودة أو حواسنا، المؤطر كل منها بقدرة لا يمكن تخطيها..

فى خارج المسجد لا يغمرنا إلا الضوء الذى نرى به ولا نراه، بمجرد عبورنا إلى داخل المسجد خلال النهار يصبح الضوء مرئيا، ولكن ليس فى حالته التى نعرفها، هذا الضوء الخفى الوافد إلينا من جرم الشمس، من النجوم النائية، هذا الضوء الواحد يحوى ما لا حصر له من الألوان، ألوان لم يصنعها أحد، ولم يصفها مخلوق، إنها الألوان المخفية، تحيط بنا ولا نراها إلا فى لحيظات نادرة، تماما مثل قوس قزح بعد نزول المطر تحف به ألوان الطيف كلها فى الفراغ المنطلق، أين تكمن هذه الألوان فى الأيام العادية؟ لماذا نعجز عن إدراكها؟

هذا ما لا إجابة له عندى، لكن الضوء الذى يرسم هذه الألوان على جدران قجماس الإسحاقى أو جدران قبة قلاوون يتضمن رسالة يمكن أن يدركها الصغير قبل الكبير، ويمكن أن يتلقاها الإنسان يوميا ولا يفض منها حرفاً ولا يدرك المعنى، وعندها أتوقف فى هذا البناء المرقق، المدقق، الذى لم أعرف له مثيلا فى دور العبادة كافة، ليس فى مصر فقط، إنما فى جميع أنحاء المعمورة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالأحد سبتمبر 06, 2009 8:50 am


مسجد قجماس الإسحاقى (٢-٢) الرحيل عبر الأنفاس فى مسجد مسافر على الماء




تلك الرهافة اللونية على الجدران، الضوء المار عبر الزجاج والجبس، أعتبرها رسائل قادمة من أعماق الكون، هنا تتمثل إحدى خصائص العمارة المصرية الدينية، منذ العصور القديمة وحتى العصر المملوكى، الذى عرف اكتمال الشخصية المصرية فى العمارة الإسلامية، هذه السمة ضرورة وجود صلة بين البناء والكون، فى مصر القديمة كان تحديد الجهات من أهم شروط العمارة، مدخل الهرم الأكبر متجه إلى النجم سوتيس «الشعرى اليمانية» مداخل المعابد أيضاً المطلة على النيل، فى مقبرة حور محب فى وادى الملوك دُهشت فى غرفة الدفن عندما رأيت تحديداً دقيقاً للجهات الأربع الأصلية عند عمق بعيد تحت الأرض، إشارات واضحة إلى الجهات الأربع، إشارات لا تخطئ.. هذه السمة نجدها فى العمارة الإسلامية المصرية من خلال عدة خصائص، منها الصحن المفتوح فى قلب البناء، وتلك النوافذ التى تسمح بمرور الضوء عبر الزجاج الملون لتلقى بلمسات حانية من الألوان المتداخلة والصريحة، ألوان من الضوء، لم يكوّنها مداد ولا مادة.

فى النصف الأول من النهار تجىء الرسائل الضوئية من الشرق، تشتعل النوافذ بمهرجان كونى فتتضح الكتابة المبثوثة فى النوافذ، والتى تتضمن اسم المنشئ فى الأغلب الأعم أو آيات قرآنية.

فى النصف الثانى من النهار يفد الضوء من الجهة الغربية، من تتبع حركة هذه المساحات المتفاوتة ورعشاتها على الجدران يمكننى تحديد الوقت، قلت إنها أشبه برسائل من أعماق الكون، أحد المعانى الجلية من حركتها من ظهورها واختفائها، إنه لا شىء يثبت، لا شىء يظل على حاله. بمجرد أن ندرك الألوان تتحرك أو تختفى، إنها دلالة على حركة الكون، على ديمومته، لو ثبتت لصار عدماً. فى الحركة حياة وفى الثبات عدم وخواء، ما نظنه ثابتاً مقيماً أبداً لا يبقى على حاله.

«وترى الجبال جامدة وهى تمر مرّ السحاب..»

«كل يوم هو فى شأن..»

«والشمس تجرى لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم..»

هذا هو المضمون الكونى الذى أقرؤه فى تلك الرسائل، ما من شىء فى الواقع الذى ندركه بالحواس له صفة الثبات والاستمرار، حتى الجبال التى نراها راسخة، صامدة، عاتية، ليست إلا وجوداً مؤقتاً، مرتبطاً بظروف بعينها، هذه الجبال تمر كالسحاب فى رسوخها البادى، ويوماً ما، لحظة ما فى المستقبل الآتى لن تكون موجودة، تماماً مثل الكوكب الذى نعيش عليه، والمنظومة الشمسية كلها التى تدور إلى حين.

هذا التغير المستمر دعوة للتبصر، للنفاذ إلى الحقائق التى لا تزول، الباقية أبداً.

«كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام..»

الآن أقترب فى رحلتى بالحياة منذ أن ولدت من عامى الخامس والستين، وإنه لكرم من الله سبحانه وتعالى أن أبلغ هذا المدى الذى لم أتوقعه بالقياس إلى ما عرفته من أخطار وما مررت به من أزمات صحية. غير أننى الآن وقد وصلت إلى مرحلة متقدمة ألتفت إلى ما كان منى ويدركنى ذهول، حتى لأسأل نفسى بصوت مرتفع أحياناً: أهكذا مرت الأوقات؟ أهكذا مرت مراحل العمر التى لم أتصور أنها ستفنى؟

فى الطفولة يظن الإنسان أن أوقاته لن تنقضى أبداً، إن ما ينعم به من أمان الأسرة باق لن يزول، إلى أن يشتد عوده فيبدأ فى اتخاذ طريقه فى الحياة فرداً مفرداً، حتى الثلاثين من العمر يتطلع الإنسان إلى الآتى، وعندها يبدأ فى الالتفات، يزداد إيقاع السنوات سرعة مع التقدم فى العمر، ربما لكثرة المشاغل، وربما لخاصية فى تكوين الإنسان وعلاقته بالزمن، تعمل أسباب التفرقة والهدم والبناء أيضاً بدون أن ننتبه، بدون أن نعى، حتى نصل إلى لحظة نردد فيها آسفين: ليتنى ما فرطت!

هذا النور الملون يذكرنى فى حركته على الجدران بعمرى المنقضى، ما إن أتملَّ منه عند موضع معين إلا وأجده فى آخر بدون أن ألحظ الحركة، هكذا الأوقات، كل شىء زائل، كل ما نظنه ثابتاً فى سفر، نحن نرحل بين الأنفاس، ننتقل باستمرار، إلى أن تحل النقلة الكبرى فتسافر ذراتنا المكونة فى أرجاء الكون، ما أعظم الشيخ الأكبر سيدى محيى الدين عندما قال:

«لما كانت الحياة جمعاً والموت تفرقة..»

ذلك هو، وهذا مضمون الرسالة التى يسر لها الفنان المصرى المجهول الطريق لكى تصل إلينا، بريد الكون، شفرة الضوء الحاوية.

غير أن جامع قجماس الإسحاقى يمنحنى المزيد، هذا الجامع الذى تتحاور فيه العناصر، تتداخل الزخرفة بالعمارة، والعمارة بالضوء، والوجود بالعدم، أتطلع إلى أرضيته فأدرك المعنى من النقوش، الجامع محيط حاوٍ، والكل مسافر باتجاه المحراب حيث الوقفة النهائية بين يدى الله سبحانه وتعالى.

موج من بعده موج

إنها الأرض يابسة، إنه الرخام، لكن هذا كله بحر، محيط، فالماء واحد، النقش يقول هذا، إنها الأرضية التى بهرتنى عندما أدركت واستوعبت، الجامع كله منقوش بالموج، أمواج تلى أمواجاً، أمواج بيضاء وأخرى سوداء، تضاد اللونين أوجد حركة مستمرة آناء الليل وأطراف النهار، موج يتبعه موج فلا ندرى الأسبقية لمن؟

كثيراً ما وقفت عند شاطئ الماء، نهراً كان أو بحراً أو محيطاً، أسأل نفسى: من أين تبدأ هذه الموجة؟ تماماً كما تلمسنى النسمة فأسأل نفسى: من أى موضع فى الكون هبت تلك النسمة، وكم قطعت من مسافة حتى وجدت طريقها إلىّ؟ كأن مصمم أرضية المسجد قرأ تساؤلاتى قبل وفادتى إلى الدنيا، أو يمكن القول إن الاستفسارات موجودة، علينا أن نجدها، كذلك الأجوبة، غير أن الأجوبة أصعب وقد لا نصل إليها أبداً، كم من أسئلة كبرى ستظل بالنسبة لى بلا إجابات حتى عروجى من الدنيا الذى بات وشيكاً.

من الجدار إلى الجدار موج يليه موج، لا يمكن تعيين بداية ولا نهاية، كذلك حركة الماء، الماء كله واحد عند الاستواء، حتى وإن كان بعضه عذباً والآخر مالحا، هكذا زخرفة الأرضية، هكذا النقش، ليس مهماً أن نرى، المهم كيف نرى، أرجو أن نتذكر ذلك.

يمكن للناظر أن يرى فى النقوش أشكالاً هندسية مجردة من مثلثات متعاقبة، وألا يرى المعنى الكامن، ويمكن تعدد الرؤى، بالنسبة لى الجوهر الواضح تدفق هذه الأشكال الموحية بالموج من نقطة لا يمكن تحديدها إلى أخرى لا يمكن تعيينها مروراً بالمحراب والمنبر اللذين تشير الأمواج كلها إليهما، لا يمكن اعتبار الحركة عكسية فى الاتجاه الآخر صوب الغرب، إنها حركة ذات اتجاه واحد، واحد فقط. تماماً مثل الزمن الذى يدفعنا إلى اتجاه واحد لا بديل له، لا رجعة منه ولا انثناء.

تستغرقنى هذه الأرضية التى تستلهم الآية الكريمة

«وكان عرشه على الماء..»

صحيح أن أرضية المسجد من رخام وحجر، لكن هذا كله يمر مرور الموج وينقضى مثل السحاب، هذا الوعى بالتلاشى يعبر عن جوهر العقيدة الإسلامية الذى يجد التعبير الأقصى عنه فى العمارة، إنه رفض الاكتفاء، اكتفاء البشر والأشياء بالموجودات المحدودة، وبكل ما يحيطهم من أشياء مادية ملموسة، تلبية لنداء العلو والارتقاء الذى لا يرد، يتجه بصرى منذ الدخول صوب المحراب، المحراب أولاً، منه ننثنى، منه نتطلع إلى سائر الجهات، حتى نمثل أمامه فنتوقف، كل بمفرده.

«ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة..»
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالأحد سبتمبر 06, 2009 8:52 am

ها هى الزخارف ترق وتشف كلما اقتربنا من المحراب، حتى إذا دنونا منه تتصاعد الأنغام الخفية، ويصبح كل غصن فى الزخرفة لحناً يمتزج بالآخر، وإشارة إلى المطلق.

أتأهب، ولكن قبل مواصلة الرحلة، قبل التقلب مع الأنفاس، أحاول استرجاع سيرة هذا الأمير، وما جرى له، وكيف انتهى الأمر بالمسجد إلى رجل فقير لم يكن له من الأمر شىء ولكن المسجد كله أصبح يعرف به، فسبحان من له الدوام.

الأمير قجماس

بعكس الأمير ألجاى اليوسفى، القوى، المتجبر، زوج أم السلطان، وأيضاً بعكس الطنبغا الماردينى الأهيف، الذى كان فى مشيه تعشق، محبوب السلطان، يبدو الأمير قجماس الإسحاقى هادئاً، مسالماً، محمود السيرة.

يقول شمس الدين السخاوى المؤرخ فى موسوعته «الضوء اللامع لأهل القرن التاسع» وكان مؤرخاً حاد اللسان، ناقداً قاسياً لأهل زمنه، يقول عنه: إنه قجماس الإسحاقى الظاهرى نائب الشام (المنصب الثانى فى الدولة المملوكية)، نشأ فى خدمة أستاذه وكان حسن الحظ، نلاحظ أن هذه صفة نادرة بين المماليك فقد كان الأمراء أهل حرب وسياسة وحكم، والذين اشتغلوا بالعلم والفن منهم استثناء، بعكس المصريين الذين تخصصوا فى الحضارة سواء كانوا علماء أزهر أو بنائين.

إذن، أتقن الأمير قجماس فن الخط، كتب نص البردة، القصيدة المشهورة وأهداها إلى أستاذه، وكتب فى حضرته البسملة، يبدو أن أستاذه كان يشك فيه، فى عهد السلطان خشقدم أصبح خازندار كيس (أى أميناً على الخزائن) وفى عهد السلطان بلباى صار أمير عشرة، وعندما تولى السلطان قايتباى ترقى فى المراتب حتى أصبح نائباً للشام، كانت حياته عامرة بالأعمال التى تعود بالفائدة على الناس، وكان ممن يوصفون بأنهم رجال دولة، يصفه السخاوى بقوله:

«وكان ساكناً خيراً من خيار أبناء جنسه متثبتاً متواضعاً متأدباً مع العلماء والصالحين».

أما ابن إياس فيذكره عند وفاته ويقول:

«وفى شوال من سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة جاءت الأخبار بوفاة نائب الشام قجماس الإسحاقى الظاهرى، وكان ديّناً خيّراً فى غاية الاحتشام مع لين جانب، وكان إنساناً حسناً لا بأس به...».

لا تناقض هنا بين شخصية الأمير ومسجده، رجل هادئ، خيّر، وعمارة بالغة الجمال، يقول أهالى الدرب الأحمر إنه بنى الجامع وبنى آخر فى الشام لكنه لم يدفن لا هنا ولا هناك، لقد دفن فى مقابر باب النصر، أما الذى رقد فى الموضع الذى كان من المفترض أن يرقد فيه، يشاء القدر أن يدفن فيه الشيخ أبوحريبة، وأن يعرف المسجد باسمه، هذه ظاهرة منتشرة فى مصر، أن يبنى أحد الحكام مسجداً لتخليد اسمه، ثم يحدث أن يطلق الناس أحد الفقراء على المسجد فيصير معروفاً به، ويلغى اسم المنشئ الأصلى، أبرز هذه الظاهرة فى المسجد الضخم الذى أمرت بتشييده خوشيار هانم (الوالدة باشا)، ثم أصبح اسمه مسجد الرفاعى بعد أن دفن فيه الشيخ أحمد أبوشباك، أحد أفراد الطريقة الرفاعية، هذه ظاهرة تتصل بعلاقة المصريين بحكامهم سأتوقف أمامها فيما بعد.

من هو الشيخ أحمد أبوحريبة؟ يحدثنا عنه على باشا مبارك فى خططه.

اسمه الشيخ أحمد الشنتناوى، من قرية شنتنا، أصله من مدينة قنا بالصعيد الأعلى، يقال إن نسبه يتصل بالشيخ عبدالرحيم القناوى، قرأ القرآن وحفظه فى صغره، ثم اشتغل بالفلاحة ونسج الصوف. وسلك طريق القوم أى أصبح متصوفاً فأخذ العهد عن الشيخ الشنتناوى، ثم حضر إلى القاهرة وفتح دكان عطارة، ثم اشتغل بحرفة الكتابة عند قبطى فى مخبز بحارة درب سعادة، ثم أخذ طريق الختمية عن بعض خلفاء الشيخ عثمان المرغنى المعروف بالختم وأصله من السودان، كتب مؤلفات عديدة منها قصيدة فى أسماء الله الحسنى نحو مائة بيت، وأخرى نحو ثلاثين، وتائية تحاكى تائية ابن الفارض، وتفسير للقرآن الكريم ومناجاة وأوراد وصلوات..

يصفه على باشا مبارك بكرم النفس، والعطف على الفقراء، أرسل إليه محمد على باشا خمسمائة جنيه مصرية فردّها، وأنعم عليه عباس باشا بأطيان فلم يقبلها، ولم يزل يترقى فى الإنعامات حتى توفى قبيل فجر الأحد لخمسة عشر خلت من ربيع الأول سنة ثمانى وستين ومائتين وألف (هـ)، وكان عمره ستين سنة، دفن بجامع قجماس، هذا ما يحدثنا به على باشا مبارك.. شيئاً فشيئاً أصبح اسمه مرتبطاً بالمسجد، صار له مولد وأحباب، وأطلق اسم أبوحريبة على الشارع الممتد بجوار المسجد، فما أغرب مصائر البنيان مع الزمان، تتبدل بها الأحوال تماماً مثل البشر، فلأعد إلى المسجد ولأسبح مع الموج المتجه إلى المنبر.

المحراب والمنبر

منغم، منمنم، هادئ، مرقق، هذه أوصاف تتداعى إلى روحى كلما دنوت من المحراب، أمامنا تقنية جديدة ربما تستخدم لأول مرة فى العصر المملوكى، الزخارف ليست بقطع الرخام الصغيرة (الخردة) إنما بمعجون صُبَّ فى مجار دقيقة تشكل الفروع والأوراق زخارف مهسهسة، بلغت الرقة درجة أنه رقق الحجر، بل إن الرقة المنبعثة من المنبر تفيض على جميع التفاصيل المتفرعة، كأن الزخرفة منقوشة على حرير مهفهف، هنا تمثل كل الألوان، وتشف الموجودات عن مكنونها، لم يدعنا الفنان المصرى الذى أبدع هذا الجمال نتساءل عن هويته، فى مرة نادرة، استثنائية، كتب اسمه وسط المحراب فى دائرة.

«هذا من عمل عبدالقادر..»

ولأننى موقن أن الاسم وجود فى حد ذاته أنحنى احتراماً، شاكراً عبدالقادر وعمله، هنا يبلغ الفن الإسلامى الغاية القصوى.

الكلمة تصبح زهرة

المعنى يصبح تكويناً

التكوين يصير ابتهالاً

عند المنبر تكتمل ظروف الحوار، مع النفس، مع الكون، وتنهمر الإشارات، أعلى قبة من خشب تستدعى إلىّ ثراء قبة قايتباى، الألوان متماهية وليست متعارضة، المنبر ماثل كأنه درج من الهمس، من الضوء، كل نظرة إلى زخارف المسجد جالبة للترقيق، للاستسلام التام بأن الوجود الحقيقى للرب سبحانه وتعالى، لكل تفصيلة، زخرفة كانت أو تكويناً، خلفية قرآنية.

المنبر آية، خشب مغطى بالأطباق النجمية، تنتظم حول بعضها البعض، طبق نجمى من أربع وعشرين ريشة، كل الأشكال توحى بديمومة الكون، بحركة الوجود، باتجاهها صوب الفناء، بتسبيحها، كل بطريقته، بوسيلته، لكم أمضيت الساعات الطوال خلال تحولات النهار محاولاً تلقى قصائد النور وهسهسات الزخارف وابتهالات الحجر والخشب والصدف وكل ما تيسر هنا! فى طريقى إلى الخارج عبر الباب الرئيسى أتأمل عنصراً فريداً سابقاً لأوانه، باباً رقيقاً، مزخرفاً، له مجرى، بحيث يفتح بإزاحة مصراعيه إلى داخل الجدارين المتوازيين (أوكورديون)، عنصر فريد لا أعرف له مثيلاً فى العمارة الدينية بمصر.

أخرج إلى المدخل الذى كان مفروضاً أن أدخل منه، فى كل مرة أوقن أن روحى رقت وشفت، أجلس على السلم، مصغياً إلى ضجيج الطريق، متأهباً للخطو باتجاه حالة أخرى، وجود آخر فى مسجد أصلم السلحدار.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالإثنين سبتمبر 07, 2009 10:36 am

القرآن الكريم أساس الفن الإسلامى.. الآية والسورة منطلق الصلة بين الجزء والكل

أمر تحت الساباط الذى كنت أقف داخله متطلعاً إلى من يمر بالشارع الضيق المؤدى إلى مسجد أصلم السلحدار، أصبح مسجد قجماس الإسحاقى ورائى، أمر بحارة سعد الله، درب المحروق مازال يحتفظ بالاسم الذى ذكره به المقريزى، الشوارع والدروب فى القاهرة القديمة منظومة تتوازى مع فن الزخرفة الإسلامى.

هناك شارع طويل عريض، يليه الدرب الواصل بين شارعين أو ساحتين، مثل الدرب الأصفر الذى يصل بين شارعى المعز والجمالية، وقد يكون سداً لا يؤدى إلى شىء، مثل درب الطبلاوى الذى كان يصل شارع الجمالية بقصر الشوق يوماً ثم قامت عمارة جعلته سداً، وقد عشت فى كليهما، الطبلاوى والأصفر وكلاهما كانا جزءاً من القصر الشرقى الكبير فى العصر الفاطمى.

الحارة يمكن اعتبارها شارعاً أضيق، أو ناحية تضم عدة دروب وأزقة.

الزقاق: شارع أقصر وأضيق.

العطفة: أى منحنى.

الخوخة: ثقب فى جدار أو عبر مبنى يصل بين دربين أو زقاقين، وأحياناً يضطر الإنسان إلى تسلق مرتفع ليجتاز خوخة محفورة فى مبنى، عبورها يقصر المسافة، هذه هى تقسيمات المدينة القديمة والتى تبدو للغريب الذى يجهلها عشوائية، تمضى كيفما أتفق، بينما حقيقة الأمر أن المدينة منظمة، منضبطة وفقاً لقوانينها الخاصة.

مرة أخرى نحن أمام الجزء والكل، تلك سمة خاصة بالرؤية الإسلامية للكون، أساسها القرآن الكريم حيث المفتتح، الفاتحة، لذلك نجد أجمل أجزاء العمارة الباب، الباب دعوة، تأمين للغريب، للعابد، يلى ذلك رؤية مستمدة من الآية والسورة، كل آية يمكن أن تُقرأ لذاتها، غير متصلة بما قبلها وما بعدها، ويمكن أن تُقرأ كجزء من تكوين آخر، السورة، تلك الرؤية تحكم الفن الإسلامى وأساليب القص أيضاً، فالأعمال الأدبية الكبرى للأصبهانى (الأغانى) والجاحظ (البخلاء والحيوان وغيرهما) والتوحيدى (الإمتاع والمؤانسة)،

أيضاً ألف ليلة وليلة، هذه الأعمال وغيرها مبنية على تلك العلاقة بين الجزء والكل، إنها رؤية كامنة فى كل الفنون والإبداعات التى تنطلق من رؤية إسلامية، رؤية مبثوثة فى النشأة والتكوين، ليس من الضرورى الوعى بتفاصيلها، لم تتغير إلا فى القرن التاسع عشر مع بدء الاحتكاك وتمثل منجز ورؤية الحضارة الغربية.

ها أنذا أصل إلى ميدان صغير، ثمة شجيرات متناثرة، ألمح عربة يد يدفعها شاب، محملة بصناديق مطعمة بالصدف، المنطقة يسكنها ويعمل بها فنانون يعملون فى الخشب والجلد والفنون التى ينظر إليها المجتمع بتعال على أساس أن هؤلاء المبدعين (صنايعية) أى لا تنطبق عليهم صفة الإبداع. وهذا نتيجة لتأثير اللغة، إذ أطلق على أول مدرسة أنشأها محمد على باشا فى روض الفرج، مدرسة الفنون والصنائع،

هكذا جرى الأمر فامتدت كلمة الصنائع لتشمل الفنون الحرفية كافة، وهبطت مرتبة أهلها، أقول إننى من خلال معايشتى لهم عرفت فنانين مبدعين كباراً فى شتى المجالات يستحقون التقدير الأجل، وهذا موضوع سأعود إليه لأفصل أمره، الآن وصلت إلى مدخل مسجد الأمير أصلم بهاء الدين السلحدار.

مرة أخرى أفكر فى وادى الملوك، فى القانون الذى يحكم هرمية السلطة فى مصر، ليس فى الحياة الدنيا فقط، إنما فى مراقد الآخرة، فى وادى الملوك، لا نجد إلا مراقد ملوك مصر فقط، على مسافة ليست قصيرة نجد قبور النبلاء فى منطقة دراع أبو النجا،

أما الفنانون الذين رسموا الآلهة والملوك فلهم قرية صغيرة منزوية، ثمة مسافة يجب أن تُراعى حتى فى المراقد الأخروية، يبدو أن ذلك ليس مقصوراً على مصر فقط، خلال زيارتى لمدينة مراكش التى أحب الإقامة فيها وتربطنى بأهلها صلات مودة، زرت مقابر السعديين الذين حكموا المغرب، المقابر هناك بسيطة، كل فى لحده،

لكن ترتيب المقابر يوازى ترتيب السلطة، الأمراء ثم يليهم بعد مسافة كبار الموظفين، ثم مسافة أكبر حيث الخدم، هنا فى القاهرة يبدأ الترتيب من القلعة حيث ساكن الجنان -كما كان يلقب قبل ثورة يوليو- محمد على باشا، ثم نتدرج، مساجد السلاطين تطل على الطريق الأعظم، السلطان حسن فى المواجهة، إلى جواره مسجد خوشيار هانم المعروف بالرفاعى، فى الميدان مسجد الوالى العثمانى محمود باشا، على مقربة مسجد قانى باى الرماح أمير آخور (أى أمير الخيل) وكان أميراً مهاباً، كلما كبر مقام الأمير اقترب من مراقد السلاطين،

وكلما قلت أهميته ابتعد، جامع أصلم يبدو منزوياً، مهملاً، مفردات جماله مطمورة فى الظل، رغم أنه يطل على ميدان، أى مجمع طرق لكنه لا يسمق ولا يشب، رغم أن واجهته مرتفعة، غزيرة النقوش، المدخل المؤدى إليه من حجارة بيضاء وسوداء، نظام الأبلق، الأبيض المصفر والأسود نجدهما فى أبلق الشام.

إننى أتوقف عند المساجد التى عرفتها بصحبة الوالد منذ طفولتى، وقد صليت هنا الجمعة، كان هدفنا الرئيسى هنا مسجد السيدة فاطمة النبوية والتى نجىء إليها من ميدان الحسين راكبين عربات خضراء اللون تجرها البغال، تتبع شركة أحد اليونانيين، كان اسمه سوارس، كان أبى يتعرف على سائر المساجد ويقول إنها كلها سواء، بيوت الله.

منذ أن جئته طفلاً وأنا أجده ذا شجن باد، ربما لأنه غير معتنى به، منسى، وحيد، مثل الإنسان الذى لا يزوره أحد ولا يقصده أحد، كما يكون الإنسان فرداً وحيداً، هكذا بعض المبانى، أحياناً تبدو شائخة، وحيدة.

أعلى الباب دائرة تحفها نقوش جميلة، ألمح حمامة فى منتصفها المفتوح، تحتها اللوحة التذكارية.

«أنشأ هذا الجامع العبد الفقير إلى الله تعالى أصلم بن عبدالله السلحدار الملكى الصالحى.. سنة ستمائة وسبعة وأربعين هجرية..»

ألمح بقايا نقوش نحاسية على الباب، بعض مما كان يغطيه، بمجرد دخولنا نصل إلى صميم البناء، ربما لأن المساحة كلها محدودة، لكن هذه الخطوة الفاصلة بين الداخل والخارج تنقلنا إلى عالم مغاير، للجامع ثلاثة أسماء، الأول: الأمير بهاء الدين أصلم السلحدار، والثانى يطلقه الناس عليه «أصلان»، واضح أنه تم تخفيف أصلم إلى أصلان، والثالث «البهائى» نسبة إلى الاسم الأول للمنشئ «بهاء الدين».

رغم أن للجامع قبة لكن لا يوجد به ضريح، لهذا يفضل السنية كما يعرف الناس المتشددون هنا، الصلاة به، وهذا من التأثيرات الوافدة من شبه الجزيرة، ليس من المستحب عندهم الصلاة فى مساجد بها أضرحة، ومما عرفته من الدكتور خالد فهمى، أستاذ التاريخ بجامعة نيويورك، أنه اكتشف تغير عادات الدفن عند بعض المصريين، ثمة من يرفض الآن الدفن فى غرف مبنية تحت الأرض، إنما يفضل اللحد كما هو متبع فى السعودية وبعض دول الخليج، اكتشف الدكتور خالد ذلك خلال قيامه ببحث ميدانى عن منطقة الخليفة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mumbuzia
عضو جميل
عضو جميل
mumbuzia


عدد المساهمات : 182
نقاط : 16612
تاريخ التسجيل : 16/08/2009
العمر : 35

تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Empty
مُساهمةموضوع: رد: تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..   تجليات مصرية .. جمال الغيطاني .. Emptyالإثنين سبتمبر 07, 2009 10:34 am

فى الجامع هنا غرفة للدفن لكنها خالية، وربما أراد الأمير أصلم أن يرقد فيها لكن القدر لم يمهله، حارس المسجد يعيش بمفرده فيها منذ ثلاثين عاماً، أرى بقايا محراب، بقايا رخام كان يغطيه يوماً، ثمة مساحات زخرفية، تعلوه ثلاث دوائر داخلها حشوات من الجبس، الدائرة الوسطى مركزها زهرة من ست أوراق، يتفرع منها أشكال نباتية على هيئة أذرع، كل منها تنتهى بآية قرآنية، فى فراغ المسجد ستة أعمدة موزعة، من تيجان الأعمدة يمكن معرفة الأصل، من مبنى قديم المرجح أنه كنيسة، خلال مسار الزمن تداخلت عناصر المعمار بين دور العبادة المختلفة، أجزاء من المعابد دخلت فى كنائس وأجزاء من كليهما يمكننا رؤيتها فى المساجد، هكذا نرى المعبد فى الكنيسة فى المسجد، تتوحد الأحجار ويتفرق الإنسان، أما الغاية فواحدة، عبادة الله سبحانه وتعالى عبر سلوك طرق مختلفة كلها تؤدى إليه، فلنتأمل.

كما ذكرت فإن كل مسجد حالة خاصة، ألمح هنا شرفة خشبية مرتفعة، أخرى تقارب السقف المرتفع، عنصر خاص بالمكان، لماذا أنشئ هكذا؟، هل يقوم مكان دكة المبلغ فى المساجد الأخرى، أهو مكان منعزل لصلاة النساء؟، أنه يحتمل هذا كله، إذ أصل إليه، أطل منه على فراغ المسجد أتمكن من رؤية مجموعة نادرة من الزخارف موزعة على ثلاث مجموعات، كل منها يتكون من دوائر ومربعات، مربعات مائلة وأخرى قائمة، دائرة فى الشرق تواجهها أخرى فى الغرب، رمزان جليان للشروق والغروب، للبداية وللنهاية، ثمة نوافذ مستطيلة محفوفة بإطار من الكتابة الكوفية المورقة،

أتذكر الكتابة المورقة فى مسجد الحاكم بأمر الله، ثمة تأثير فاطمى لا تخطئه العين، زخارف تشبه تلك الموجودة فى مسجد الصالح طلائع، النقوش الموزعة فى توازن غير مرئى لكنه محسوس تحدث تعميقاً لحالة الشجن. بعضها منزو وبعضها على وشك الاندثار، عتاقتها، إهمالها، تجعلنا نشعر أننا فى طلل، بقايا، الدوائر والنوافذ تيسر دخول الضوء إلى الداخل، يوجد فى الجامع مخزن غلال، وجوده يعنى أن ثمة مكاناً للإقامة، ربما كان المنشئ يقصد استضافة الصالحين أو المسافرين العابرين.


قبل أن أتطرق إلى منشئ المسجد الأمير أصلم أتوقف عند إنسان أصبح من المعالم هنا، عم محمد، أقول له يا عم رغم أنه يصغرنى سناً، أحاوره فى الشرفة الخشبية المرتفعة، من خلال صلته بالمكان نقف على ما يشد البشر إلى الحجر هنا، كلاهما يتبادلان التأثير.

يقول عم محمد إنه من مواليد حارة جامع أصلان رقم ٤٩، وراء المسجد، اعتاد التردد على المسجد الذى كان شبه مهجور، تعرف إلى رجل اسمه محمود، كان يصعد إلى المئذنة ويرفع الأذان، ويبذل الجهد للحصول على سجاد من أهل الخير، كان فى المسجد اثنان من المنصورة يتبعان الأوقاف، أحدهما عاد إلى بلده، وبقى الآخر وكان مرتبه ضئيلاً جداً لا يفى حاجته لذلك ترك العمل، لم يكن مقبولاً أن يغلق المسجد، عم محمد أخذ المفتاح، وفى هذه الأيام انهار البيت القديم الذى يقيم فيه، آوى إلى الجامع أصبح يقوم بكل شىء، كنس ومسح.

أسأله عما إذا كان لديه ارتباط خاص بالمكان، يقول بسرعة:

«أنا لو ماكنتش عشقت أصلم ماكنتش قعدت، طيب ما أنا كان ممكن أروح مسجد فاطمة النبوية، لكن كان يتهيأ لى أنى باشوفه جانى فى المنام وكان لابس أبيض فى أبيض، وقال لى خلى بالك من الجامع، الخلاصة بقيت أنا والجامع حتة واحدة».

يقول عم محمد إنه ينام فى الغرفة التى كان من المفروض أن تكون مدفناً، يغلق الباب ليلاً ويصبح متواجداً بالمكان، المنطقة فيها ناس مبسوطين، المهن الأساسية هنا النجارة والأحذية، بعد الزلزال أرادوا أن يرمموا على نفقتهم، جاء مهندس من الأوقاف وطلب الفلوس التى جمعها لكن.. «الكلام ده مايدخلش علينا».

يقول عم محمد إن أصعب لحظة مرت عليه يوم الزلزال الذى وقع عصراً، يقصد زلزال عام ١٩٩٢، يومها الجامع مال ورد تانى، كان ذلك وقت صلاة العصر، لولا عناية الله بالمسجد وقوة أساسه لأصبح بسيسة، يعيش عم محمد متفرغاً تماماً للمسجد، لا أسرة ولا مشاغل أخرى، أسعد أوقاته عندما ينفرد بالمكان، عندما يصبح متواجداً بالمسجد، أحياناً يحاور نفسه ويجادلها.

أحد أصحاب ورش الأحذية على الطرف الآخر من الميدان يقول إن الأمير أصلم كان يحمل السلاح للسلطان قلاوون أو الظاهر بيبرس، إنه غير متأكد، لكن فى كل الأحوال كان يخدم «الريس»، يتدخل أحد الواقفين ليقول إن المسجد حدثت به شقوق بعد الزلزال، لكن مثل البشر فيه جوامع غنية وحظها كويس، وفيه جوامع فقيرة، أصلم يشبه الرجل الذى يتقدم فى العمر ويصبح على قد حاله، «لما يعجز يبقى غلبان» ده جامع غلبان.

هل صحيح إن أصلم غلبان؟

بالتدقيق فيما يتضمنه من نقوش وزخارف يمكن القول إنه كان ثرياً، وأن بعضا من آثار هذا الثراء مازال، فقط، يحتاج إلى بعض العناية، هنا نصل إلى الأمير أصلم، من هو؟ وما هى ملامحه؟

الأمير أصلم هو أحد مماليك المنصور قلاوون الألفى، وبعد أن تم توزيع الملك الأشرف خليل بن قلاوون بعد قتله أثناء سلطنة الناصر محمد بن قلاوون، كان نصيب الأمير سيف الدين أقوش المنصورى، ثم انتقل إلى الأمير سلار، كان المماليك بعد اختفاء سادتهم يتم توزيعهم كجزء من التركة.

بعد عودة الملك الناصر من الكرك، أنعم عليه بإمرة عشرة، أى قرر الناصر محمد ترقيته إلى أمير على عشرة مماليك، ثم ترقى إلى أمير مائة، كان ماهراً فى رمى النشاب، مع سلامة صدر وخير، إلى أن مات يوم السبت عاشر شعبان سنة سبع وأربعين وسبعمائة، عندما يموت الملك على فراشه فهذا يعنى أنه كان محمود السيرة، رقيق الطبع، معظم نهايات المماليك كانت مأساوية، خاصة الكبار منهم، الذين اقتربوا كثيراً من السلطان. يقول على باشا مبارك فى خططه:

وأنشأ بجوار هذا الجامع داراً سنية وحوض ماء، للسبيل، وإلى الآن هذا الجامع مقام الشعائر وبه أربعة ألونه، وعلى حائط الليوان الذى عليه المنبر ألواح رخام فى الدائرة، وكان على صحنه قبة هدمت الآن وبقى مكشوفاً، وله بابان بشارع أصلم، مكتوب بأعلى أحدهما:

«بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أنشأ هذا الجامع المبارك العبد الفقير إلى الله تعالى أصلم عبدالله السلاح دار المالكى الصالحى»، وأبتدأ فى عمارته فى سنة خمس وأربعين وسبعمائة وأوفى فى ربيع الأول سنة ست وأربعين وسبعمائة.

وله أوقاف تحت نظر الأسطى سليمان السندبيسى بتقرير من المحكمة، ومبلغ إيراده فى السنة اثنا عشر آلف قرش وأربعة وستون قرشاً، منها إيجار أماكن أحد عشر ألف قرش وتسعمائة وستة وتسعون قرشاً ونصف، وأحكار سبعة وستون قرشاً ونصف، يصرف منها فى الرواتب أربعة آلاف وأربعمائة وأحد عشر قرشاً ونصف والباقى للعمارات.

ينتهى ما أورده على باشا مبارك، كان فى زمنه يحسب بالقرش الذى اختفى تقريباً الآن بعد المليم، وفى الطريق الجنيه أفارق مسجد أصلم عائداً إلى الميدان، رغم الإهمال الذى يخيم على الجامع إلا أنه يترك فى نفسى أثراً، وفى خلواتى عندما أكون بمفردى أستعيده، أتذكر الضوء داخله، ونقوشه التى يتداخل فيها الفاطمى بالمملوكى، والحارس الوحيد الذى أصبح جزءاً من البنيان، أحياناً يتوحد الإنسان بالعمارة، لكن الإنسان عمره أقصر.

أعبر الميدان متجهاً إلى مسجد السيدة فاطمة النبوية، إلى اليمين زاوية صغيرة مدفون فيها الشيخ عبدالله الدسوقى شقيق الشيخ إبراهيم الدسوقى، أتوقف لقراءة الفاتحة، ثم أواصل لزيارة السيدة فاطمة النبوية، وقد كنا نتردد عليه كثيراً صغاراً بصحبة الوالدين، رحمهما الله.

يقول الناس إنها مدفونة هنا، والثابت تاريخياً أنها لم تدخل مصر، لكن ما يعنينى الرمز، المعنى، يمكن القول إنه ما من فرد من آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام إلا وله مرقد فى مصر، المصريون حلوا المشكلة بما يسمى مراقد الرؤيا، أن يأتى شيخ مهيب فى المنام، ويأمر أحد الصالحين ببناء مرقد لأحد أفراد بيت النبوة، يكون ذلك أمراً واجب التنفيذ، هكذا يمكننا زيارة السيدة سكينة والسيدة رقية والسيدة عاتكة فى شارع واحد يلى جامع ابن طولون،

هنا توجد الأسطورة أيضاً، بالقرب من مسجد أصلم يقول الناس عن مسجد صغير أن خادم الرسول مدفون فيه واسمه سيدى عبدالله، يذكرنا ذلك بمدينة فاس، حيث يوجد مبنى جميل فى المدينة يقول الناس إن الرسول عليه الصلاة والسلام فى طريق عودته ليلة الإسراء به عرج على فاس وشرب من عين ماء لاتزال تدفق، فاس بنيت فى القرن الثانى الهجرى، إنها المدن القديمة، لها تاريخها الخاص غير المدون يتحرك به البشر، هنا فى الدرب الأحمر تعجبت لما سمعته عن الناس عن أم السلطان شعبان، ولهذا تفصيل.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
تجليات مصرية .. جمال الغيطاني ..
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» جمال عبد الناصر

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى العدميين العرب :: مقالات و ترجمات-
انتقل الى: