د. سمير غطاس يكتب: ملف التسوية فى الشرق الأوسط .. سوريا أولاً.. التوريث والتسوية (١)
٢٨/ ٨/ ٢٠٠٩
بعد أن أغلقت مصر ومن بعدها الأردن ملفاتهما للتسوية السياسية مع إسرائيل، لم يعد هناك من يركض على مضمار هذه التسوية سوى الخيول السورية والفلسطينية التى أنهكها هذا الركض المضنى وراء المفاوضات السرية والعلنية والمباشرة وغير المباشرة ولكن من دون أن يصل أى منهما إلى حل أو تسوية يستعيد بها أراضيه الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلى منذ هزيمة ١٩٦٧ وحتى الآن.
كانت إسرائيل - كعادتها - قد استغلت انعدام التنسيق والتوافق بين المسارين السورى والفلسطينى لتلعب على التنافس القائم بينهما وتذهب بكل واحد منهما على حدة إلى مشارف خط النهاية فى المفاوضات ثم ترتد به من جديد إلى المربع الأول ونقطة الصفر فى هذه اللعبة التى تعود فتبدأ ولكن لا تنتهى أبدا.
كانت المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية هى التى تستأثر بالتغطية الإعلامية الواسعة، ولم تكن فى العادة تسلم من حملات الاتهام والتشكيك والتجريح، بينما أحيطت المفاوضات السورية – الإسرائيلية، بالمقابل، بأجواء من التكتم والسرية رغم أنها لم تنقطع تقريبا منذ أن بدأت أولى جولاتها سراً فى العاصمة الأمريكية واشنطن فى يونيو ١٩٩٤، وربما لهذا ينبغى إلقاء المزيد من الأضواء على أسرار وخبايا ملف هذه المفاوضات السورية – الإسرائيلية، لأنها مرشحة أكثر لأن تحتل الصدارة، ربما حتى على حساب المسار الفلسطينى، إذا ما جرى استئناف عملية التسوية العتيدة فى الشرق الأوسط..
كان ستة من رؤساء الوزارة فى إسرائيل قد تعاقبوا واحدا بعد الآخر على المشاركة فى المفاوضات التى جرت سرا مع سوريا، ابتداء بإسحق رابين ومرورا بشيمون بيريز وبنيامين نتنياهو ثم باراك وشارون ووصولاً إلى إيهود أولمرت الذى تميز، خلافا لأقرانة السابقين، بإخراج المفاوضات السورية – الإسرائيلية من الكواليس إلى النور ومن السر إلى العلانية.
ويبدو أنه لهذا السبب تزعزعت بعدها مكانة أولمرت واهتز كرسى الحكم من تحته، قبل أن يجرى القذف به إلى خارج مقر ملوك إسرائيل أو مكتب رئيس الوزراء الواقع فى ٣ شارع كابلان فى مدينة القدس.
وخلافاً للانطباع السائد فى الشارع العربى فإن عام ٢٠٠٨ الماضى شهد تطورات بالغة الأهمية والخطورة على مسار المفاوضات السورية – الإسرائيلية التى احتضن جولاتها الوسيط التركى، وقد وصلت الأمور فى هذه المفاوضات إلى الحد الذى دعا الرئيس السورى بشار الأسد إلى القول صراحة لصحيفة «لاريبوبيلكا» الإيطالية فى ١٨/٣/٢٠٠٩ إن سوريا وإسرائيل كانتا قريبتين كالشعرة من إبرام اتفاق سلام. وقد أكد الأسد الابن فى تصريحه هذا على ما كان أولمرت نفسه قد سبقه وقاله علناً فى ١٩/١٢/٢٠٠٨ فى المؤتمر السنوى لمعهد بحوث الأمن القومى هناك، أولمرت قال وقتها: إن اتفاق السلام مع سوريا هو أمر قابل للتحقق، وهناك إمكانية حقيقية وواقعية للتوصل إلى اتفاق بين إسرائيل وسوريا قريبا جدا.
لكن يبدو أن هذه التصريحات الوردية جاءت متأخرة، وتعثرت مرة أخرى ولادة هذا الاتفاق العتيد ولم يخرج الجنين إلى النور رغم الحبل به منذ أكثر من ١٥سنة، لأن أولمرت نفسه كان على حافة الخروج من موقعه كرئيس لوزراء إسرائيل، فى الوقت الذى كان فيه الرئيس السورى يلح على ضرورة إشراك أمريكا فى عقد هذا الاتفاق بينما كان الرئيس بوش، غير المتحمس له، يستعد هو الآخر لمغادرة البيت الأبيض غير مأسوف عليه.
وهكذا ضاعت الفرصة التى قال الرئيس الأسد إنها كانت على بعد شعرة، وقد تكرر هذا السيناريو، على نحو مشابه، فى تجارب تفاوضية سورية – إسرائيلية سابقة، وبالنتيجة تبقى هضبة الجولان تحت الاحتلال الإسرائيلى لأكثر من أربعين عاما.
لقد كان صحيحا، ولايزال، القول بأنه ليست لإسرائيل مصلحة فى التوصل إلى اتفاق سلام مع سوريا تنزل بموجبه عن هضبة الجولان التى احتلتها عام ٦٧، لأنها تعتبرها زخراً استراتيجياً على المستوى الأمنى نظرا لطبيعتها الطبوغرافية المتحكمة من أعلى فى مناطق حيوية من إسرائيل، فضلا عن أهميتها القصوى كمصدر أساسى للمياه التى يتزايد الطلب عليها والحاجة الماسة لها.
وهذا الأمر يعنى بوضوح أن إسرائيل لن تنزل عن هضبة الجولان سوى فى حالتين: الحالة الأولى هى إجبارها على ذلك بالقوة، بالمعنى الشامل للقوة الذى هو أكثر اتساعا وشمولا من مفهومنا المحدود للقوة بمعناها العسكرى وحده، بينما يمكن أيضا استعادة هضبة الجولان فى إطار صفقة كبرى متوازنة قد تضطر إسرائيل لها إذا كانت ستضمن الحصول مقابلها على مرابح استراتيجية تعوضها النزول عن هضبة الجولان المحتل وتحفظ لها فى الوقت نفسه القدر الأكبر من شروط الأمن والأمان.
وكل هذا يبدو بديهيا ومفهوما، لكن ما هو غير مفهوم ولا مبرر له هو استمرار هذا التناقض الصارخ بين الخطاب السورى الثورجى الذى لا يمل من امتشاق شعارات المقاومة ويتهم الآخرين ويتهجم عليهم، بينما يسود الصمت المطبق والهدوء التام والشامل هضبة الجولان المحتلة منذ ١٩٧٤ وحتى الآن، وتمنع السلطات السورية بكل ما لديها من سطوة وقوة أى طرف كان من محاولة الاقتراب من الجولان المحتل والتفكير فى القيام بأى عمليات عسكرية أو غير عسكرية لمقاومة الاحتلال الإسرائيلى هناك بما فى ذلك منع إلقاء الحجارة أو حتى التظاهر والمقاومة السلمية، وهذا المنع يسرى على الجميع بلا أى استثناء من الجيش العربى السورى نفسه إلى أى جماعة سورية أو أى جماعة أخرى من حلفاء سوريا المتواجدين على أراضيها أو إلى جوارها بما فى ذلك الحرس الثورى وفيلق القدس الإيرانى وحزب الله وحماس والجهاد وجماعة جبريل وأبوموسى وباقى الأبوات.
وربما لذلك تفاخر إسرائيل بأن جبهة الجولان المحتلة هى الأكثر هدوءاً وأمنا، وأن السلطات السورية سمحت العام الماضى بتصدير التفاح من إنتاج المستوطنات اليهودية فى الجولان عبر أراضيها، وإن كانت سوريا قد تقدمت بشكوى شديدة اللهجة للأمم المتحدة لأنها سمحت باستيراد نبيذ تنتجه نفس المستوطنات فى الجولان المحتلة.
وإذا بقيت سوريا تحافظ على منع الجميع من ممارسة الحق فى مقاومة الاحتلال، فإنه لم يعد أمامها سوى خيار التفاوض الذى يبدو أنه أحرز تقدما ملموسا فى نهاية العام الماضى بشهادة الرئيس بشار الأسد الذى أكد أن اتفاق سوريا مع إسرائيل كان على بعد شعرة وليس أكثر، وقد يكون هذا الأمر واحدا من الأسباب المهمة التى تدفع الإدارة الأمريكية الجديدة للرئيس أوباما للميل لما يسمى بخيار سوريا أولاً، وهناك العديد من المؤشرات التى تدعم هذا التوجه الأمريكى الجديد ليس آخرها قرار أوباما بإعادة السفير الأمريكى إلى دمشق، والتحسن الملحوظ والمطرد فى العلاقات السورية – السعودية التى تحمل المياه إلى نفس الطاحونة.