فن الدين
بقلم د. محمود خليل ٣٠/ ٨/ ٢٠٠٩
قد تبدو العبارة غريبة .. لكن من يلاحظ الطريقة التى يؤدى بها الدعاة الذين تزدحم بهم شاشات الفضائيات خلال أيام رمضان يمكن أن يتأكد من أنهم يقدمون المضمون الدينى بنفس الطريقة التى يقدم بها الفنانون المضمون الدرامى، وأن الخطاب الدينى يكاد يتحول على أيدى هؤلاء إلى مجرد «تمثيلية» أو «فيلم عربى» .
ولست أدرى كيف ضل عمرو خالد، وخالد الجندى، ومبروك عطية وأمثالهم الطريق إلى السينما، وكيف ضل عنهم مخرجوها ولم يختاروا من بينهم نجوماً وشخصيات تصلح بجدارة للتمثيل السينمائى، كما سبق واختاروا من بين نجوم الرياضة لاعبين لمعت أسماؤهم فى عالم السينما ! .
كيف ضل هؤلاء عن أولئك رغم أن العلاقة ما بين فنانى الدعوة الدينية وفنانى السينما والتليفزيون علاقة أساسية ووطيدة . فكل فنان فى الوسط له صديق من هؤلاء الدعاة . يشهد على ذلك تلك المجموعة من البرامج الحوارية التى استضافت - خلال الأسبوع الأول من رمضان - مجموعة من الفنانين والفنانات، أكد أكثرهم أن لهم علاقة بهذا الداعية أو ذاك.
والدعاة أنفسهم لا ينكرون ذلك، ويؤكدون على أنهم يستخدمون نجومية هؤلاء الفنانين من أجل خدمة الإسلام وجذب الشبـــاب إلى الدين ! . وقد كان الأستاذ عمرو خالد ( الذى يمثل حالياً برنامجاً دينياً على قناة المحور) أول من استقبل الفنان تامر حسنى عشية خروجه من السجن نتيجة تهربه من التجنيد، وحاول إيجاد نوع من التعاون المشترك بينهما، مما يعنى أن الداعية واع تماماً بضرورة الالتحام بين دور الدين والفن ! .
وقد بدا هذا الالتحام بين الدعاة والفنانين طبيعيا، فى ظل أسلوب فى الدعوة الدينية يعتمد على منطق المسلسلات، بما ترتكز عليه من إثارة ناتجة عن نبش العلاقات التحتية فى دنيا الذكور والإناث، وصراع ما بين الخير والشر، وصياغة حوارات لا تخرج - فى مضمونها أو لغتها - عن الحوارات التــى تدور فى الشوارع أو البيوت، أو حتى غرف النوم .
كما يشترك الفنانون مع الدعاة فى الاعتماد على الأداء الوعظى نفسه، وإغماض العينين و»تسبيلهما»، وحركات اليدين، وإيماءات الجسد، واصطناع البكاء، وانهمار الدموع، وتلوين الصوت، والتحكم فى نبرته ارتفاعاً وانخفاضاً .
والسلطة سعيدة أشد السعادة بالدور الذى يلعبه هؤلاء الدعاة «الفنانون»، بعد أن أفلحوا فى إغراق الشعب فى طوفان من الجوانب الشكلية فى الإسلام، مثل الحديث عن الحقنة الشرجية وهل يفطر من يتعاطاها فى رمضان أم لا ؟، وحكم من نظر بشهوة إلى زوجته فى نهار رمضان، وشكوى بعض السيدات من «الرجالة المبصبصاتية»، وصراخ بعض الرجال من «النسوان المستبدة»، وغير ذلك من أمور تعتمد على الدراما الإنسانية فى أعلى صورها .
الحكومة مبسوطة آخر انبساط من هؤلاء الفنانين «الدعاة» لأن أحداً منهم لا يفتى أو يتحدث مثلاً عن حكم الإسلام فيمن يستخدم مياه الصرف الصحى فى الزراعة لـ «يطفح» المصريون الطعام الذى تغذى على بقاياهم الآدمية، أو حكم الإسلام فيمن يحتكرون السلع الأساسية التى لا تصلح حياة الناس إلا بها، أو حكم الدين فى تزوير الانتخابات، أو فى إهانة وسحق مواطن داخل قسم شرطة ! .
ومن المضحك أن تسمع أحدهم بعد ذلك يشيع أن الحكومة تمنع ظهوره على شاشات التليفزيون، وأن الآخر يقول إنه تم لفت نظره من جانب مسؤولين أمنيين لأنه تحدث ذات مرة عن أمور غير مرضية للسلطة ؟! . والمسألة هنا لا تزيد عن أن الداعية «الفنان» يريد أن يسوق لنفسه ويروج لاسمه لكى يخلق طلباً فضائياً على ما يقدمه . وهو يعلم - قبل غيره - أن الحكومة راضية عنه أشد الرضا .
فهنـاك عقد - غير مكتوب - ما بين الطرفين، تسكت الحكومة بمقتضاه عن المكاسب الهائلة التى يحققها هؤلاء الدعاة ( والتى تقترب من مكاسب الفنانين)، والله أعلم هل يدفعون الضرائب المستحقة عليها أم لا، وفى المقابل من ذلك يخرس هؤلاء «الفنانون الدعاة» عن الخوض فى شؤون الحكومة، بل وعندما يطلب منهم استغلال نجوميتهم وتأثيرهم على الناس فى دعم توجه معين (كالتوريث مثلاً) فإنهم يلتزمون بالقيام بدورهم فى هذا الاتجاه .
لقد أفلحت الحكومة بالتعاون مع هؤلاء الدعاة فى تفكيك فكر الجماعات الإسلامية وتذويب فكرة الإسلام الحركى الذى يضم الشباب فى جماعات تعادى الحكومة، وأحياناً المجتمع، ليسود ما يمكن أن نطلق عليه «إسلام الحركات» . ونقصد به الإسلام السطحى الذى ينشغل بالطقوس المظهرية، ويهتم بالسنن أكثر مما يعتنى بالفروض، وبالشكل أكثر من المضمون، وبـ «القفا» أكثر من «الوش» .
وتعبير «القفا» استخدمه الداعية خالد الجندى وهو يتحدث عن أحد الفضلاء الذى لم ير فى حياته «قفا» مصل، لأنه باستمرار كـــان يصلــى فى الصف الأول . إنه الإسلام الذى يعلى من ثقافة «الغسيل» . فبإمكانك - مثلاً - أن تغسل ذنوبك وأنت تشترى كارت الموبايل، لأن الشركة التى تشترك لديها أعلنت أنها سوف تعطى المحتاجين مما تدفعه ثمناً للكارت، وفى مقدروك أن تغسل ذنوبك التى ظلمت بها من قابلت من البشر على مدار ساعات النهار بكلمتين ذكر ترددهما قبل النوم، وباستطاعتك أن تحتفظ بثروة جمعتها من الفساد بمجرد أن توجه جزءاً ضئيلاً منها إلى مشروع خيرى يرعاه أحد هؤلاء الدعاة ! .
والمواطن هو الآخر مبسوط بهذه الطريقة . ونجاح الدعاة «الفنانين» فى التسرب إلى الشباب لا ينكره إلا مكابر . ذلك الجيل الذى يريد أن يتحول كل موجهيه إلى مدرسين خصوصيين . وإذا كان مطلوباً من المدرس الخصوصى أن يلخص المنهج، ويعود الطالب على أسرع الطرق وأبسطها للإجابة على الأسئلة والحصول على الدرجات، فقد أصبح الدعاة «الفنانين» مطالبين أيضاً بتلخيص الدين !، وتكثيفه فى مجموعة من الأفكار السريعة والبسيطة التى تساعد المواطن على الحصول على أعلى الدرجات فى الآخرة، حتى ولو كان بكولدير «مية ساقعة» ! .
وهكذا ضاع العقل الدينى للمصريين ما بين التطرف البغيض من ناحية، والتسطح الفكرى المخل من ناحية أخرى، إلى الحد الذى يمكن أن نقول معه أننا أصبحنا فى حاجة إلى ثورة للإصلاح الدينى، قبل الإصلاح السياسى، حتى يعود «القفا» إلى مكانه الطبيعى !