د. محمد نور فرحات يكتب: المسكوت عنه فى حديث مستقبل الرئاسة فى مصر
٥/ ٩/ ٢٠٠٩
من أبرز الخدع السياسية التى تروج بين المصريين عند تقييمهم لحكامهم قولهم إن هذا الحاكم كان من الرجال الصالحين وإنما يرجع سوء عمله إلى حاشية السوء المحيطة به التى دفعته لذلك دفعا.
قال المصريون هذا القول المخادع عن الملك فاروق وعن جمال عبدالناصر وعمن لحقهما وسبقهما من ذوى السلطان الأكبر.
وينسى المصريون بهذا القول أنهم يصورون حكامهم كما لو كانوا معدومى الإرادة تتحكم فيهم عصابات من الأشرار المحيطة بهم وهم بلا حول ولا طول وهو تصوير سلبى لا نرضاه للحكام أو المحكومين على حد سواء.
خطر هذا المعنى بذهنى وأنا أطالع مقال الأستاذ مجدى الجلاد فى المصرى اليوم بتاريخ ٩ أغسطس سنة ٢٠٠٩ بعنوان (رجال جمال مبارك) يعيب فيه على نجل الرئيس وأمين السياسات بالحزب الحاكم أنه يحيط نفسه (بالمنتفعين الفاسدين الذين حققوا ثروات ضخمة ومنافع شخصية باستغلال النفوذ واقترابهم الفعلى والوهمى من جمال شخصيا).
والسؤال المحورى الحاكم للنقاش هو: هل كان يمكن أن تكون لجمال مبارك حاشية غير الحاشية وأن يكون هو غير ما هو عليه، وهل كان يمكن لمبارك الأب أن يكون شيئا مختلفا لو كانت حاشيته قد اختلفت؟ وهل كان يقدر لفاروق الملك ولعبدالناصر الرئيس أن تتغير مسارات سياستهما لو أنهما أحاطا نفسيهما بحاشية مختلفة؟
يبدو لى السؤال غير مشروع لأنه يضع العربة أمام الحصان، فسياسات الحاكم أو المسؤول هى التى تصنع الحاشية التى تسهم بدورها فى دعم هذه السياسات وليس العكس. وسؤال آخر: هل يمكن أن تجتذب السلطة التى لا تحمل مشروعا فكريا وطنيا يلهب حماس الناس له ويجعلهم يلتفون حوله- هل من الممكن أن تجتذب هذه السلطة غير هؤلاء الذين يخطبون ود السلطة لذاتها من الفاسدين ونهازى الفرص والمغامرين والمتاجرين بقوت الشعب والمثقفين المنافقين؟
لقد تشكلت حول نظام يوليو منذ قيامه نخبة تعمل من أجله سواء من المؤمنين بأهدافه وهم كثر أو من المتسلقين على جدرانه، وكان للتحول الاشتراكى الذى سلكه عبدالناصر رجاله من المؤمنين به أو من المتسلقين على جدرانه، وعندما جاء السادات ورفع شعارات الديمقراطية وسيادة القانون واقتصاد السوق كان له رجاله من المؤمنين به ومن المتسلقين على جدرانه، وعندما خلفه مبارك بعد حادث المنصة المأساوى ورفع شعارات النقاء والطهارة والمصالحة الوطنية كان له رجاله من المؤمنين به ومن المتسلقين على جدرانه،
أما عندما بدأت إرهاصات ما يسمى بالتوريث فلم يبق فى الساحة السياسية الرسمية من مجموعات ما يسمى بالفكر الجديد إلا المتسلقون على الجدران وخلت هذه الساحة من المؤمنين لسبب بسيط هو عدم وجود ما يؤمنون به.
ويبدو أنه قد تحلقت حول مبارك الابن ضمن الجماعة المحيطة به مجموعات من رجال الأعمال الذين أثروا على حساب الشعب، ومن المحتكرين والمغامرين والباحثين عن الكسب السريع بأى وسيلة. كما تجمع حوله أيضا نفر من المثقفين الذين يجيدون فن المناورة والخداع الفكرى بصياغات ترضى أهواء الحاكم أى حاكم. وهى هنا صياغات تبرر التوريث أحيانا وتنفيه أحيانا أخرى ولا تستبعده بل تحبذه فى كثير من الأحايين وتيسر أمامه السبل القانونية والتشريعية فى جميع الأحوال.
منذ ثمانى سنوات تحديدا وقضية التوريث تلح على الخطاب السياسى المصرى سواء على المستوى الرسمى أو غير الرسمى، على مستوى الحكومة وحزبها (الوطنى الديمقراطى) أو على مستوى أحزاب المعارضة أو على مستوى القوى المحجوبة عن الشرعية أو على مستوى جماعات الاحتجاج الجديدة أو حتى على مستوى أحاديث المقاهى والمنتديات سياسية كانت أم غير سياسية.
بدأ الحديث همسا عن التوريث منذ عاد الابن من عمله البنكى بالخارج وأخذ يخطو بحذر نحو العمل الاجتماعى العام بدءا من الانخراط فى جمعية المستقبل حتى المجلس المصرى الأمريكى. كانت رياح التوريث تهب على المنطقة فى سياقات مختلفة لا شأن لمصر بها ولا تتوفر شروطها فى مصر، إما تحقيقا لتوازنات طائفية وإما لإحكام الغطاء على ممارسات الفساد.
ورغم أن الدولة ومؤسساتها كانت تفتح الأبواب على مصراعيها لمبارك الابن للاستفادة من إمكانياتها (مثلما فعلت جامعة القاهرة عندما خصصت مبنى كاملا داخلها لجمعية المستقبل) إلا أن الأمر حينئذ كان مقبولا من المصريين، على مضض ما دام محصورا فى حدود ممارسة العائلة الرئاسية للعمل الاجتماعى وهى الممارسة التى خط نهجها الرئيس السادات وحرمه ولم تكن معروفة فى مصر قبل ذلك.
ولكن بات واضحا للمراقب بشكل تدريجى وبمرور الزمن أن الأمر بالنسبة لمبارك الابن ليس مجرد نزوع نحو الانخراط فى العمل الاجتماعى العام ولكنه طموح سياسى بدأ يتبلور وينمو بالتدريج حتى أصبح اليوم شاخصا للعيان رغم الصياغات الملتوية التى يحاول رموز الحكم أن يتجنبوا بها مصارحة الشعب.
عندما كان نشاط مبارك الابن مقصورا على العمل الاحتماعى والعمل الحزبى المحدود، دعانى الأستاذ مكرم محمد أحمد رئيس تحرير مجلة المصور وقتئذ للمشاركة فى حوار نشر لاحقا فى المجلة مع السيد جمال مبارك.
شارك فى الحوار الذى عقد بدار الهلال عدد من صحفيى المجلة وكتابها الخارجيين وكنت منهم. تطرق حديث مبارك الابن إلى مسألة تحديث الحزب الوطنى وتطرق أكثر إلى بعض التفصيلات الحزبية التى لا تهم المواطن العادى فى قليل أو كثير.
طلبت الكلمة وعرضت اقتراحى بتطوير الحزب الوطنى بأن يتخلى الرئيس عن رئاسته ويتركه للمنافسة الحرة مع القوى والأحزاب السياسية. فالمنافسة هى التى تصنع الأحزاب السياسية الحقيقية. بدا لو كان مبارك الابن قد فوجئ تماما بحديثى ونظر إلى قائلا:
هل تعرف ماذا يمكن أن يحدث للبلد لو أخذنا باقتراحك، قلت: ستستقيم الحياة السياسية فى مصر. وأيقنت أن مبارك الابن يتبنى وجهة نظر الأب الرئيس والتى أفصح عنها أكثر من مرة عن ضرورة وجود حزب قوى يحكم مصر.
ولكن السؤال الجوهرى غير المطروح يتعلق بمصدر قوة الحزب، هل يستمد الحزب قوته من رأس السلطة أم يستمد رأس السلطة قوته من الحزب؟ هل تتبع المؤسسة الشخص أم يتبع الشخص المؤسسة؟ ظلت هذه النوعية من الأسئلة بلا إجابات حتى الآن.
أيقنت وقتئذ أننا أمام مرحلة مختلفة نوعيا من مراحل العمل العام لجمال مبارك. مرحلة يحكمها طموحه السياسى نحو سدة الحكم. وقد كان. تم اصطناع أمانة جديدة فى الحزب الحاكم تسمى أمانة السياسات حشد فيها المشتاقون والساعون إلى التحصن برضاء السلطان والمتوهمون عبثا إمكانية الإصلاح من الداخل، ثم انتخب مبارك الابن أمينا عاما مساعدا للحزب، ثم جرى تعديل الدستور ليصبح مرشح الحزب الوطنى هو المرشح الوحيد الجدير بالفوز،
ثم جرى انتخاب الابن عضوا بالهيئة العليا للحزب وهى الخطوة قبل النهائية وفقا لنص مادة الدستور المشينة التى جرى إقحامها باسم الديمقراطية (المادة ٧٦) ثم أصبح «جمال» يمارس صراحة دورا سياسيا وتنفيذيا يخرج عن إطار عمله الحزبى، بل أصبح يظهر فى وسائل الإعلام الأجنبية باعتباره رئيس مصر المتوقع وتفاصيل القصة معروفة للجميع.
ما يهمنا أن نتوقف عنده الآن هو تحليل الخطاب السياسى الرسمى المتعلق بالتوريث ورصد التطورات التى لحقت به لندرك حجم مخططات وتدابير القصور التى تحاك فى ردهات الحزب الحاكم بعيدا عن أعين الشعب.
فى البداية كانت تصريحات الرئيس مبارك قاطعة فى نفى التوريث، فمصر على حد قوله ليست سوريا وليست كأى بلد عربى آخر يدور فيه حديث التوريث.
ودور الابن كما يقول الرئيس لا يخرج عن مساعدة الأب مثلما تساعد ابنة الرئيس ميتران والدها. ورغم أن الحالتين مختلفتان لأن عمل ابنة ميتران لم يخرج عن كونها سكرتيرة لوالدها ترتب له أوراقه وملفاته أما مبارك الابن فيمارس السياسة من أوسع أبوابها بل ويرأس لجنة تصنع سياسات الحزب الحاكم أى سياسات الدولة، رغم كل ذلك فقد قوبلت تصريحات الرئيس حول نفى النية للتوريث بارتياح بالغ فى الشارع المصرى.
ثم تغيرت اللهجة تدريجيا وحل محل النفى الصريح لإمكانية تولى الابن الرئاسة القول بأن أمر الرئاسة المقبلة مرجعه إلى إرادة الشعب لأن مصر دولة مؤسسات (بصرف النظر عن كون هذه المؤسسات كلها تقع فى قبضة حزب واحد أو شخص وبصرف النظر عن كون إرادة الشعب يتم تزويرها عن عمد).
على أن أكثر تصريحات الرئيس خطورة وانعطافا عن تصريحاته السابقة ما أدلى به مؤخرا للصحفى الأمريكى «تشارلى روز» بمناسبة زيارة الرئيس الأخيرة للولايات المتحدة. قال الرئيس إن ابنه لم يفاتحه فى أمر رغبته فى الترشح للرئاسة!!!.